تونس : ما قصة تفوق الإناث على الذكور في الدراسة؟
مرّة أخرى تسجّل الفتيات في تونس نسبة نجاح أكبر من الفتيان في البكالوريا. وقد فاق هذه السنة الفرق في النجاح بين الجنسين النصف، حيث تقول الأرقام إن نسبة نجاح الفتيات بلغت 60.98 في المائة مقابل 39.2 في المائة بالنسبة للذكور، أي أنه يوجد ست فتيات من بين كل عشرة ناجحين في البكالوريا. إنها ظاهرة غير صحية تدعو إلى التفكير الجدّي.
والقول بأن الأمر أصبح ظاهرة ليس مبالغا فيه لأن هذا التفاوت الكبير تكرّر بما فيه الكفاية لاعتباره ظاهرة، كما أن التفاوت لا يقتصر على مستوى معيّن بل يمس كل المستويات الدراسية بما فيها الشهادات الجامعية العليا. وقد اعترف المجتمع، قبل المؤسسات المختصة، بظاهرة تفوق الإناث على الذكور. ونورد حادثتين طريفتين للتدليل على ما ذهبنا إليه.
طلبت والدة تلميذ في الابتدائي من ابنها المتفوّق، أن يحاول بلوغ المرتبة الأولى لأنه يراوح مكانه في الثانية منذ سنتين بسبب احتكار زميلته للمرتبة الأولى، فكان ردّه حرفيّا: «أنا لست بنتا لأكون الأول في القسم». كما حدثتنا أستاذة في التعليم الإعدادي عن ردّ فعل غريب لتلميذ ذكي ولكنه كسول، حين عاتبته عن عدم إنجازه لملف تعتقد أنه قادر أكثر من غيره على إنجازه بدقة. ردّ التلميذ بأدب: «أرجوك سيدتي أن تعفيني من شغل البنات هذا، فليس لدي الصبر الكافي للمطالعة والقص واللصق» واقترح عليها في المقابل أن تعوّض هذه الفروض «المملة» حسب تعبيره بنقاشات في القسم.
نحن لن نعتمد طبعا على هذين الشهادتين للفصل في أسباب تفوق البنات على البنين، فتلك مهمة أصحاب القرار الذين يمكنهم الطلب من المختصين في العلوم الاجتماعية والنفسية والتربوية دراسة الظاهرة ومدّنا بالتفسيرات والمقترحات لتجاوزها، لكن يمكن لنا أن نستنتج، من الشهادتين المذكورتين، أن الأمر أصبح فعلا ظاهرة بدليل اختلاف الأحكام المسبقة للجيل الجديد عن أحكام الأجيال التي سبقته، أي أن هناك نوعا من الانقلاب في التصورات السائدة حول الأدوار الاجتماعية المؤسسة على الجنس البيولوجي. فالثقافة السائدة عندنا، وفي العالم بصفة عامة، تعتقد وتروّج لتفوق الذكور على الإناث في العقل والذكاء والاجتهاد، وتحث الذكور على الكد والجد باعتبارهم مطالبين بالإنفاق على عائلتهم وقوامين على النساء، وفي المقابل تعتبر البنت غير مطالبة بجهد مماثل، فإن اجتهدت ولم تصب يكون لها أجر الزواج أي ضمان لقمة العيش على الأقل.
و نحن إذ نقارب الموضوع من هذه الزاوية فلاعتقادنا بأن وراء ظاهرة تفوق الإناث على الذكور أسباب اجتماعية بحتة، تماما مثلما كان الشأن حين كان الذكور يتفوقون على الإناث بوضوح عبر التاريخ.
فمن خلال تجربتنا كمربين يمكن لنا الجزم بأن الشبان لا يقلّون عقلا وذكاء ورغبة في النجاح عن الفتيات، ولكنهم لا يعملون بنفس القدر الذي تعمل به الفتيات. الكسل صفة يصعب إنكارها بالنسبة للذكور ولكنه يكون في الأغلب كسل انتقائي. فالذكور لا يقبلون على الأعمال التي تتطلب طول نفس وصبرا على الجلوس لمطالعة الكتب مثلا، أما الأعمال الميدانية التي تتسم بالحركة فنراهم سباقين في الأغلب إليها. كما نلاحظ أن الطالبات تقبلن على الدروس التي تبدأ باكرا أكثر من إقبال الشبان عليها، وكأنهن يسعدن بالهروب من البيت باكرا، ولهن أيضا صبر أكبر على الإنصات. وبصفة عامة تنجز الطالبات الفروض في وقتها المحدّد أكثر من الطلاب. لذلك لا يفاجأ الأساتذة بتفوق بعض الطالبات على طلاب أكثر ذكاء منهن. الذكور ليسوا إذن أقل عقلا من الإناث، والقول بعكس هذا ليس علميا بل يدخل في مجال العنصرية التي تفسر الظواهر بالأسباب البيولوجية البحتة، والذكور ليسوا أقل حرصا على مستقبلهم من البنات خاصة في مجتمع أبوي ما زال يعتبر الرجل قواما بما ينفق، كما أن العائلات لا تميز البنت على الولد وربما يكون العكس هو الصحيح.
المسألة كما نرى من خلال هذا المثال البسيط لا ترتبط بالجنس البيولوجي للطالب وإنما بالجهد المبذول. أما تفسير تقصير الذكور في الجهد فيجب البحث فيه. ونفترض أن أسبابه اجتماعية وثقافية، منها ما نعلمه عن تشدد العائلات، حتى الأكثر تحررا، مع البنات بالنسبة للتحرك منذ الصغر، حيث تعيّر البنت التي ترغب في لعب الكرة مع أترابها الذكور ويفرض عليها اللعب الهادئ الرّتيب الذي يتطلب الجلوس لساعات للاعتناء بدميتها مثلا. وفي المقابل يدفع الذكر إلى الألعاب المعتمدة على الحركة والسرعة، أي أن عدم التوازن بين الحركة والهدوء والصبر والتسرع يبدأ منذ الصغر.
و يتواصل التمييز في فترة المراهقة حيث تتحلّل العائلات مع الذكور في مسألة الخروج والسهر أكثر من البنت باعتبار الذكر «رجلا لا تشينه شائنة» حتى أن المجتمع أنشأ مثلا شنيعا يقول «بأن الحبس للرجال» على أساس أن كل من يعمل أو يتحرّك يخطئ، في حين أن السجن للمجرمين نساء كنّ أو رجالا. وقد تكون أيضا المسؤولية الاجتماعية الملقاة على كاهل الذكر سببا في تسرّبه المبكر من التعليم أو في فشله إذا كان يعمل إلى جانب الدراسة، أو رغبة منه في الكسب والبدء في تجهيز نفسه للزواج. فتراه لا يواصل تعليمه بعد الإجازة ويقبل أول شغل يعرض عليه. وقد لاحظت ذلك شخصيّا خلال تأطير البحوث، إذ يحدث أن ينقطع الشبان عن البحث ويعلّلون ذلك بحصولهم على عمل لا يسمح لهم بمواصلة البحث، في حين لا تنقطع الفتاة عن البحث سوى نادرا، وتواصل دراستها حتى بعد زواجها وحملها وتربيتها لطفلها. ويصعب أن يطلب منها زوجها التوقف عن الدراسة والخروج إلى العمل، وحرجه ينبع من التقاليد التي تجعل العمل واجبا على الرجل وترفا بالنسبة للمرأة، والدليل أننا نقول عن الرجل الذي لا يجد شغلا بأنه عاطل عن العمل والعكس نادر جدا.
يمكن إذن في النهاية أن تكون مرة أخرى الأدوار الاجتماعية التقليدية سببا في تأخر الذكور عن الإناث بالنسبة للتحصيل الدراسي، أي أن هذه الأحكام الجائرة في حق المرأة هي التي جعلتها تتفوق على الرجل. ورغم خطورة الظاهرة لا يبدو أن أصحاب القرار قد أولوها عناية، وهو ما يمكن أن نصفه بالتمييز ضدّ الذكر مثلما كان الحال، وما زال، بالنسبة للظواهر السلبية التي تعاني منها المرأة والتي يعتبرها المجتمع طبيعية بالمعنى الحرفي لكلمة طبيعة، أي غير قابلة للتغيير، والحقيقة أنه وراء تفوّق أو فشل فئة لها خصوصيات مشتركة، سواء كان الجنس أو الطبقة أو الجهة، أسباب اجتماعية واقتصادية قابلة للفهم والمعالجة.
المسألة إذن في تفاقم وتفرض البحث وتوفير حلول، مثل تكريس خطاب المساواة بين الجنسين بعدم تحميل الرجل وحده مسؤولية نجاة العالم أو خرابه، أي عدم تحميله ما لا طاقة له به، وإعادة النظر في المقرّرات الدراسية بما يضمن توازنها بين الحركة والسكون، وبالتالي التقليل من التكاسل بالنسبة للذكور، قبل أن يفاجأ المجتمع بحصول عدم توازن خطير في المناصب العليا لصالح النساء. فحتى المناضلات النّسويّات، وأنا منهنّ، لا تعملن كما هو مروّج لتفوق الإناث على الذكور، وإنما تعملن من أجل تحقيق مجتمع متوازن، لأن كل عدم توازن، سواء كان في صالح الذكور أو الإناث، ينمّ عن تقاعس المجتمع في توفير حظوظ متساوية لجميع أبنائه.
سلوى الشرفي
أستاذة للإعلام والاتصال بالجامعة التونسية
الصباح