إسماعيل آيت عبدالرفيع لعلَّ من نافلة القول التذكيرَ بالمرتبة المتدنية التي يحتلُّها المغرب حاليًّا في التصنيف العالَمي الأخير للبنك الدولي فيما يتعلَّق بقِطاع التربية والتعليم، والمشاكلُ التي يتخبَّط فيها القطاع بمختلف أسلاكِه - دليلٌ قاطع على عُمق الأزمة وحِدَّتها، لدَرَجة تُنذر بخطرٍ كبير على مستقبل البلاد، ما دام التعليمُ قاطرة التنمية ودعامتها المتينة؛ إذ لا يمكن - إنْ لم نقل يستحيل - الحديثُ عن تنمية وازدهار في ظلِّ تعليمٍ هشٍّ متخلِّف ومتدنٍّ، لا يراعي خصوصيةَ المستهدف.
في ظلِّ هذا الواقع المرير والحقيقة المؤلمة، كان لا بدَّ للمجتمع مِن ضحية يقدمها كبشَ فِداء لغسْل وتبرير فشلِه الذريع في إصلاح منظومةِ كشْف الواقع، وكشف زيف شعاراتها المرفوعة منذُ مدَّة، فلم يجدْ لإقناع الآخَر - بَلْهَ نفْسه - أفضلَ مِن المربي بطلاً لهذه التمثيليَّة؛ لمكانته أولاً في العمَلية التعليمية، ولسهولة إلْصاق التهمة به بالنسبة لمجتمعٍ أُمِّي لا يفقه قوانين اللعبة،
فماذا يُريد المجتمع من المدرِّس؟ وهل صحيح فعلاً أنَّ المربي هو مَكْمن الداء؟إنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة الكبيرة تتطلَّب منَّا تأنيًا وتتبعًا (
كرونولوجيًّا) لدَوْر المربِّي في المجتمع منذُ فجر الاستقلال إلى اليوم؛ للوقوف على حقيقةِ الوضع الراهن، واكتشاف الخلَل الذي أسهمت الجهاتُ الوصية على القطاع على تكريسه بطريقةٍ مباشرة قصدية، أو غير مباشِرة.
لقدْ كان المربي يحظَى بمكانة هامَّة وحيوية داخلَ المجتمع؛ باعتباره مصدرَ المعرفة وبانيها، مكانة حَرَص هو بنفسه على بنائِها ورِعايتها بمجهوداته وعطاءاته وسطَ مجتمعٍ حديث عهْدٍ بالتعليم الجديد ومتعطِّش للمعرفة؛ إذ شارك في وضْع البرامج وتطبيقها، وبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس مِن منطق الإحساس والتقدير للمسؤولية الملقاة على كاهله، مسؤولية لا يحس عظمتَها وثقلَها إلا مَن كابدها وارتمى في أحْضانِها.
وقد كان المدرس حرًّا في اتِّخاذ قراراته، وبناء تعليماته وَفقَ الوضعيات التعليمية، وبناءً على ما توفَّر لديه من إمكانات وخيارات، متمتعًا بهامش من الحرية والاستقلالية النوعية، التي تتيح له الاشتغالَ بنفسية مرتاحة، وقناعة راسِخة، تدعم خياراتِه وترعاها؛ وضعية جعلَتِ الجميعَ ينظر إليه على أنَّه قُطب الرَّحى في العملية التعليميَّة التعلُّميَّة.
لقدْ كان المدرِّس يشتغل بناءً على ما توفر لديه من إمكانات ووسائل تعليميَّة بسيطة جدًّا، لكن الإرادة الجمعية، والرغبة الملحَّة في النهوض بهذه الرسالة الاجتماعيَّة مَكَّنتْه - ومِن ورائه المجتمع - مِن التغلُّبِ على كل تلك المشاكِل المختلفة والمتجدِّدة.
أمَّا رسالته التربوية، فقدْ كان المدرس يؤدِّيها في المؤسَّسات الاجتماعيَّة كلها، بما في ذلك الشارع، والأسرة، والأحزاب، والنقابات، والجمعيات، والمنظمات...؛ مما جعَلَه يحظى باحترام وتقدير المجتمع، احترام أكْسَبه سلطةً رمزية ومعنوية داخلَ المؤسسات وهو يُؤدِّي رسالته ومهمته، وخارجها باعتباره مواطنًا صالحًا يبغي الخيرَ لمجتمعه وينشده، مَثَلاً أعلى لغيره مِن أجيال تتربَّى على يديه، وتتعلَّم وتهتدي.
حقيقة أثارتْ حفيظةَ البعض من هُواة السياسة ومتشدِّقيها الكثر، الباحثين لهم عن مكانة عجزوا عن تبوئِها، فبحثوا لهذه السُّلطة الرمزية عن تأويلاتٍ مُغرِضة، خوَّفوا بها المجتمع؛ خوفًا على مصالحهم، وركبوا في سبيل ذلك كلَّ مركب، ولو كان على الصالح العام للأمة، فاتُّهِم المربي وأُدين.
لا يَتعلَّق الأمر هنا بمجرَّد اتِّهام، بل اتِّهام مشفوع بمحاولات وتدابير إجرائية، هدفُها التقليص والحدُّ مِن صلاحيات المدرِّس، هذا الكائن الذي حاولوا تجريدَه من إنسانيته، وجعله آلة لتفريخ مواطني المستقبل وسواعِد الأمَّة المتينة، بناءً على توجهاتهم ومخططاتهم بعيدة المدى، ضاربين بذلك عُرضَ الحائط إنسانية المربي وقناعاته.
فهل المربِّي مُستعدٌّ للتخلي عن سلطته التربوية؟ ولصالِح مَن