يعيش أحمد مع والدته مريم : إنه طفل فاقد حنان الأب الذي مات وهو لا يزال برعما في سن يحتاج إلى العناية والرعاية المتمثلتين في الحنان والحماية الأبوية .
مع أم بدون زوج تائهة بين غياهب ظلمة أفكارها وشرودها ...أم تنظر إلى ولدها وكأنه جاء إلى عالم مجهول ... تنظر إليه وتبكي عروق جسدها فتتوتر أعصابها إشفاقا وخوفا على بريء من مصير مجهول ؛ في نظرتها هذه وشرودها الدائم تتذكر بين الفينة والأخرى ذكرياتها مع زوجها عادل الذي كان يبادلها نفس الحب ونفس الشعور والذي عادتها كانت تستقبله بهما عند عودته من عمله المجهد فتزيل عنه باستقبالها هذا كل متاعب اليوم بنشوة الحب ...
تتذكر في أحمد أباه الذي كان يدخل الدار فيجدها نجمة متألقة مستعدة باسمة غير عابسة مهما كانت حالاتها النفسية و....
مع هذا تتذكر والدته عائشة التي كانت غالبا ما تقسو عليها لا لشيء ، إنما لأنه تزوجها وكسر تعلق أمه به إلى درجة أنها من فرط تعلقها بعادل وزواجه من مريم مرضت مرضا كاد أن يودي بحياتها لولا عناية الله تعالى وعرضها على طبيب نفساني الذي وبتجربته العريضة وحبه لمهنته وإيمانه برسالته النبيلة استطاع علاجها وإخراجها من معاناتها بعض الشيء لكن النظرة كانت دائما متجهة إلى هذه الزوجة التي في اعتقادها أنها اختطفت منها ابنها واستحوذت عليه غير ملتفتة إلى أنها تزوجت يوما فأنجبت من ابن امرأة أخرى ربت ورعت وأحبت ولدها قبلها ...
تتذكر مريم هذا فتذرف عيناها دموعا من صلب معاناتها ومتاعبها مع هذه الأم ثم تعود لتمسح دموع آلامها بذكرياتها الخالدة مع عادل فتنظر إلى أحمد نظرات مختلفة ...تنظر إليه وكأنما ظلم في الخروج إلى هذا العالم الذي سينمو وسط صراعاته دون أب يحميه ويمنحه الدفء ويراقبه ؛ وأخرى نظرة ترسم له من خلالها مستقبلا زاهرا لكنها سرعان ما تدير رأسها يمنة ويسرة فلا تجد أية وسيلة لتنفيذ ما ترسمه وكما يقال : ( الشيء حدو قدو والخص فيه ) بمعنى أنها لا تجد إلا ما يسد رمقها وصغيرها ...
تحولت نظرة مريم بعد أن عدلت من قرارها القاضي ب : ( لا زواج بعد موت عادل لن يرقد مرقده أحد؛ أي كان ؛ حفاظا على ذكرياتهما الخالية ...)
كان هذا قرارها لكن بعد الوقوف أمام عوائق الزمان والمكان واسم الآلة بلا عنوان عندما وصل السيل الفراش والركن والوجدان تحولت النظرة إلى مراجعة الذات وحساب الخطوات بالتفكير المعمق في رجل يحمي بالدرجة الأولى ولدها ويعوضه بعضا من الحنان والحماية المفقودين فيرجع إليه عند الحاجة ومن تم وهي تراوغ مشاعرها وأحاسيسها مراقبة الباب في لهفة المتعطش المنتظر هدية من السماء اسمها ابن الحلال إنسان آدمي لا كلبا متأصلا من كلب وكلبة سلالة الكلاب من أمثال المتجولين المتسكعين المتباهين بفجورهم في تجمعات ...
تنتظر في صمت تراقب في صمت بقلب خفاق هو الآخر في صمت أذناها ،حواسها ، كليتها تراقب في صمت تتأرجح أفكارها بين الترقب والحسرة ورثاء الزوج ...
لم تحدث يوما ضجة المطلقات ولا صخب الأرامل من بعض اللواتي واللائي يتخذن من الفجور معنى للتحرر الفكري تماشيا مع موضة العصر ؛ عفوا ؛ أنا آسف : هو تحرر فعلا ودون مساومة ولا مزايدة عليه ، لكنه تحرر من الإنسانية والهوية والحشمة والوقار ...
مريم التي لم تنحدر يوما وطوال فترات حياتها إلى سوق النخاسة لخلقها القويم والتي نالت ثقة محيطها فلا من يطاردها ولا من يبصبص ولا من يلهث لأنها بكل بساطة مريم بين القاصي والداني بنت التجربة والعقل الذي صقلته المحن وطوعته الحياة بعد تربية في بيت تملأه الحياة مع أبوين يعشقان سرها وأسرارها وبعدهما مع زوج اختزل عمره حياته في كلمات ...
مريم الآن تنتظر المخلص الذي يأتي وقد لا يأتي...
فمن ذا الذي سيأتي للارتباط بأم ؟
الارتباط بأم وطفلها في عصر طغت عليه لغة :
كم تملك ؟
وماذا تملك؟
وما وضعيتك داخل المجتمع ؟
وأسئلة من هذا القبيل ...: