[center]علي الوكيلي
Friday, September 17, 2010
هي سلسلة أخطاء مركبة، منذ الاستقلال، أخطرها المزايدة على الوطنية عن طريق إصلاح التعليم، وكان بإمكان السياسيين إعداد مخطط رزين هادئ لتعريب التعليم ومغربته، غير أن التسرع وإظهار حنة اليد الوطنية دفع بالمدرسة الوطنية إلى الإفلاس الذي تعاني منه اليوم، والمتمثل في قصور المدرسة العمومية عن تقديم الجودة المطلوبة. تم تعريب الرياضيات والأشياء في بداية الستينيات في الابتدائي دون تعريبهما في الإعدادي والثانوي، ثم تم تعريب الرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء-كيمياء في الإعدادي والثانوي دون تعريبهما في كليات العلوم ومدارس المهندسين. وقد تم تعريب الإجتماعيات والفلسفة وكان لذلك أثر إيجابي على المتعلمين، مما يعني أن التعريب لم يكن كله وبالا، إلا أن اللغة الفرنسية تدهورت بشكل رهيب بعد تعريب هاذين الدرسين، وكان الأجذر تعويض ذلك بحصص إضافية في اللغة الأجنبية.
مغربة الأطر هي أيضا تمت بتسرع كبير، حتى أنه كان يوظف غير الحاصلين على البكالوريا لتدريس الإعدادي، مما سمي آنذاك المكلفين بالدروس. والمنطق يقول أننا لا نعوض أبدا أستاذا جيدا بأستاذ رديء، وقد ضحينا بالكفاءة من أجل المغربة. ولحد الساعة، لا أفهم لماذا تمت الاستعانة بمدرسي رياضيات من أوروبا الشرقية لا يتقنون اللغة الفرنسية أواسط السبعينيات. كما تم الاستغناء عن مدرسين عرب أكفاء في الفلسفة والعربية والاجتماعيات بينما المدرسة الثانوية لم تستكمل عدتها من الكفاءات المغربية؟
بداية الثمانينيات مال المسؤولون إلى التعليم الكمي، وذلك بإدخال مجموعة من المواد الإضافية في المستوى الابتدائي خاصة، تخص الجانب التطبيقي الفني دون النقص من الدروس النظرية، والحصيلة إغراق المتعلم في دوامة من الفروض والواجبات المنزلية وغيرها دون إعطائه فرصة استيعابها، فكان كالحمار يحمل أسفارا، المحفظة ثقيلة الوزن أما التحصيل فما قل ودل، ما يكفي فقط للنجاح ثم يتم نسيانه بسرعة.
جاءت أيضا فكرة التعليم الأساسي لمحاربة الأمية وليس لتقديم الدرس الجيد، فكان أن تم عمدا إنجاح التلميذ بكل الوسائل ليصل إلى مستوى الثالث إعدادي وبعد ذلك الطوفان، وحين يصل التلاميذ إلى الجدع المشترك يكونون في غالبيتهم لا يتجاوزون مستوى الشهادة الابتدائية القديمة، التي كانت تسقط دونها الأرواح وتقام لها الأفراح وتعلق في صدر الصالون.
نظام الامتحان في المستوى الثانوي الذي تم اعتماده سنة 1979، وصنوه الذي تم اعتماده سنة 1989 سيكون الضربة قاصمة الظهر النهائية، إذ تسرب الغش إلى الامتحانات وأصبح ممارسة عادية قلبت المفاهيم والأخلاق والسلوك القويم، وهنا أذكر أن وزارة التعليم نشرت في بعض السنوات من الألفية الثالثة ترتيبا للثانويات حسب نتائج البكالوريا، وكانت النتائج عجيبة، فتصدرت الترتيب ثانويات عريقة ومعروفة بتقديمها تعليما ذا جودة عالية مثل ثانويات مولاي يوسف بالرباط ومولاي ادريس بفاس والثانوية العسكرية بمكناس وغيرها، لكن تسربت إلى قمة الترتيب ثانويات قمة في الغش، حيث تساهل الطاقم التربوي والإداري في رفع الحظر على التلاميذ ففعلوا ما شاؤوا، في الغالب بسبب امتحان التلميذ في مؤسسته وتحت إشراف أساتذته وبإدارة أطره التربوية التي يعرفها جيدا ويكون قد اقتسم معها الطريق والسوق ولم لا المأكل والمشرب، هذا دون الحديث عن الاكتظاظ الذي لا يعترف به المسؤولون، وهم على صواب، لأن محاربة الأمية تتم فعلا بأعداد لا تجمعها ساحة جامع الفنا.
وكما يقول المصريون، كل ذا كوم وما تعامل به السياسيون مع التعليم كوم. فقد أصر السياسيون ومعهم رجال الاقتصاد على أن التعليم لا ينتج ثروة وطنية ومن ثم فلا نتائج تذكر من العناية به وبرجاله وأن كل ما يصرف على هذا القطاع هو هدر لطاقات الأمة، الرضى، كما يقول الحسين بنياز، وتحول رجل التعليم من رسول يقف له الناس إلى مجرم يرمى في السجون ويطرد من وظيفته ويحرض عليه في الإعلام الرسمي والخاص.
وقد نذكر أيضا احتقار السياسيين للتعليم الابتدائي فتم تكوين المعلم على أساس شهادة إعدادية ثم مستوى البكالوريا ثم شهادة البكالوريا وكان من الواجب أن يتم تكوين المعلم في المدارس العليا على أساس شهادة الإجازة ويدمج في السلم العاشر، لأن التعليم الابتدائي هو أساس كل تعليم.
نصل إلى مسؤولية رجال التعليم أنفسهم في ما وصلت إليه المدرسة العمومية، لنعترف أن البعض منهم استلذ الساعات القليلة على مدى زمن طويل، وقد يكون هناك من اشتغل خمس ساعات في الأسبوع مدة عشر سنوات فهو إذن غير مستعد لأن تسند له 21 ساعة ظالمة، هذا منكر وباطل سينزل عليه، كما أن هناك من استغل طبيعة المادة التي يدرسها، كالمواد العلمية أو التقنية فأخذ يفرض على أبناء الشعب الساعات الإضافية مهددا تلامذة قسمه بالوبال العظيم، فتغير مستوى العيش وارتفع إلى رغد غير قابل للنقاش بينما من أشد الإجرام فرض الساعات الإضافية على تلامذة القسم، ومن المفروض أن يتدخل القضاء لتجريم الساعات الإضافية المصحوبة بالتهديد وأن يمنع المدرس من إعطاء الساعات الإضافية مطلقا لتلامذة قسمه.
كما أننا لا ننكر إهمال الكثير من المدرسين لجانب تكوين الذات واكتفاءهم بنفس المعرفة البيداغوجية والعلمية القديمة التي تخرجوا بها من مدارس التكوين، بما يعني غياب الاجتهاد والبحث وتطبيق أساليب جديدة في التواصل مع التلاميذ.
إذن، مدرسة عمومية تقوم بوظيفة محاربة الأمية خوفا من توبيخ المؤسسات الدولية المختصة في الترتيب والتصنيف، بأطر محبطة اجتماعيا تحت ضغط الذل الطبقي في دوامة ملهاة الترقية الداخلية والامتحانات المهنية والانتظارات النقابية حتى غدا المدرس يحمل وردة ينتف أوراقها: ستكون الزيادة، لن تكون الزيادة، ستكون الزيادة، لن….. أما ما يقع في الأقسام فشيء رهيب لا يعرفه إلا من اكتوى به. ولعل من يسأل عن سبب إقفال المدارس الابتدائية في المدن وهيمنة التدريس الخصوصي واتساعه ليشمل الإعدادي أيضا سيفهم أن المغاربة يبحثون بجدية عن الجودة حتى ولو كانت فوق طاقتهم، وقد نجازف فنقول أن أغلب المغاربة الذين يفوق دخلهم 5000 درهم لا يقتربون من المدرسة العمومية الابتدائية.
لقد وصلنا إلى المستوى الذي أصبح فيه العامل الأكبر للهدر المدرسي هو التلميذ نفسه، والتلميذ الذكر بالضبط، الذي لا يعرف أحد ماذا يريد؟ التحصيل أم الوظيفة قبل الأوان أم الزواج التلميذي أم الهجرة السرية أم ماذا؟ ينتقم من كل شيء، من أهله، من مدرسيه، من التلميذات الموجودات في المؤسسة أو في القسم، ولعل نظرة واحدة إلى الانحطاط التعبيري المكتوب على الطاولات وحيطان القسم يبين ذلك، تلميذ غير منضبط، كثير الغياب، مهمل للواجبات، لا يحمل كتابا ولا دفترا ولا قلما، لكنه يلبس آخر صرعات الموضة ويمشط وفق آخر التقليعات الشبابية في الغرب، ويوم الامتحان يحضر أدوات لوجيستيكية متطورة تعفيه من استخدام ذكائه وذاكرته وتكشف عن ذكاء خارق أسيء استعماله.
يظن البعض أن الهدر المدرسي يمكن علاجه ببعض المسكنات التي تحمل أسماء براقة وغاية في الحذلقة تتجدد كل سنة وكأنها تتعمد خلق انفعالات الإعجاب والرهبة، بينما الحقيقة أمرّ من ذلك، إنها حقيقة سياسية اجتماعية اقتصادية، وإذا أردنا رد الاعتبار للمدرسة العمومية فعلينا إعلان الحرب على الفساد أينما كان قبل أن نحارب الفساد في المدرسة العمومية وحدها، وختامه أقول: توضيح الواضحات من المفضحات والله يهدي ما خلق.
hespress