لماذا نزل القرآن مفرقا... ولم ينزل جملة واحدة؟ هذا السؤال أو التساؤل قديم سأله المعارضون للرسول من باب المعارضة له فيشيء ما، ولو نزل جملة لقالوا لم لم ينزل مفرقا؟ ولكن سؤالهم أو اعتراضهمهذا أفادنا كثيراً في معرفة الحكمة من الله سبحانه منزل الكتاب حيث ذكراعتراضهم ورد عليه: (وقالوا لولا نزّلَ عليه القرآنُ جملةً واحدة)؟ كمانزلت الكتب السابقة: التوراة والإنجيل حسب ما بلغهم. فرد الله عليهم فيالآية نفسها (كذلك.. "أي أنزلناه مفرقا" لِنثبّتَ به فُؤادَكَ ورتَّلناهُترتيلا).
ثم تأتي الآية الأخرى فتسوق لنا حكمة غير الأولى:
(وقُرءاناً فَرَقناهُ لِتَقرأَهُ على النّاسِ على مُكثٍ ونزَّلناهُ تنزيلاً).
ومعنى فرقناه: جعلنا نزوله مفرقا منجما وفي قراءة: فرَّقناه بتشديد الراء.
ما الذ الرشفة بعد الرشفة يأخذها الظامئ من كوب عصير بارد ليستديم لذة هذا العصير في فمه مدة!..
وما أطيب الأمن والراحة النفسية للإنسان. يتعهده حاميه وراعيه الفينة بعدالفينة، ويزوره المرة بعد المرة، ويزوده كلما زاره بطاقة تقوية، وتشد أزرهوتحميه!..
هذا شيء نحسه من واقع الحياة التي نعيشها والطبيعة التي تحكمنا، والقرآنهدى وشفاء، تشريع وتكليف، نزل على الرسول ليقود على هديه البشر، ويداوي بهأمراضهم الاجتماعية، ويمدهم بطاقة مادية وروحية، وهو ليس بالقصير الذييمكن قراءته في جلسة، أو حفظه في يوم، ولهذا كان من حكمة الله أن ينزل علىالرسول مفرقا، حتى يتمكن (ص) وهو وصحابته من حفظه؛ لأن الرسول وإن كان قدحرص على أن يأمر بكتابته، إلا أن العرب تغلب عليهم الأمية غلبة كبيرة،صدورهم هي كتبهم أو كما قيل: "أناجيلهم صدورهم" فهم يعتمدون على الحفظ،ولذلك، برعوا فيه، ولابد أن يكون القرآن أمره كذلك، يعتمد فيه على الحفظ،حتى وإن كتب على حجارة ملساء أو عظام مفرطحة، أو غر ذلك مما يستطيعونالكتابة عليه؛ لأن الورق لم يكن متوفرا لديهم بالصورة التي نراها عندنا،أو بالصورة التي تمكنهم من كتابة القرآن كله عليه..
فكيف إذن يمكنهم حفظه لو نزل دفعة واحدة؟ هذا أمر عسير، ومن المتعذر علىالإنسان أن يجد له حلا.. والله قد أخذ عباده بالتيسير عليهم: (لا يكلفُاللهُ نفساً إلا وُسعَها) فلم يكن مفر من نزول القرآن مفرقا: (وقرآناًفرقناهُ لتقرأه على النّاسِ على مُكثٍ) أي على مهل وتؤدة، (ونزلناهتنزيلا) متتالياً لذلك. فإذا حفظوا اليوم ما نزل، ثم حينما ينزل شيءيحفظونه، ويضمونه إلى ما حفظوه من قبل كان الحفظ سهلا عليهم كما نفعل نحناليوم ويفعل كل الناس والطبيعة واحدة والقدرة في جملتها واحدة.
ولو نزل القرآن جملة واحدة لنزل فيه الأمر بالعقائد والتشريعات كلها دفعةواحدة، وكان القوم سيعجزون وهم في أول أمرهم بالإسلام.. وفي حاجة إلىأخذهم بالرفق والتدريج، وقد رأينا كيف عالج القرآن أمرهم في شرب الخمربالتدريج، ولو كانت الحكمة في غير التدريج لكان.. ولكن الله فعل ما تقتضيهحكمته القائمة على علمه بالنفوس، فهل كان يتسنى للقرآن الأخذ بهذه الحكمة،لو أنه نزل جملة واحدة؟ّ!
حقيقة يولد الإنسان ويشب حتى يبلغ فيكلف بكل ما في القرآن، ولكنه مسلموابن لمسلم، وشب وتربى في جو إسلامي وتعود في صغره على آداب الإسلاموتشريعاته، فلا يصعب عليه القيام بعد ذلك بتكاليفه.. فالأمر يختلف عمنندعوه لينسلخ من شركه في بدء الدعوة لينضم لزمرة المؤمنين _والدعوة غريبةولها أعداؤها.. فلا بد من التدرج في التكاليف بما يتناسب وحالة الداخلينالجدد في الإسلام.
وكثيراً ما كان يسأل المؤمنون أو اليهود أو المنافقون أو المشركون، يسألونعن أشياء يريدون فهمها أو عن أشياء يريدون تعجيز الرسول وإظهاره بمظهر عدمالعارف ليضعفوا من شخصيته ومهابته، وكان نزول القرآن مفرقا يتيح للرسول أنيتلقى الرد عليهم من جبريل بما يريد الله، ولذلك تجد كثيراً في القرآن(يسألونك) أو (يسألك الناس) وتجد الرد بعد ذلك:
(يَسئَلونَكَ عَنِ الأهلَّةِ قُل هيَ مواقيتُ للنَّاسِ والحجِ...).
(يَسئَلونكَ عن الخمرِ والميسرِ قُل فيهِما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للنّاسِوإثمُهُما أكبرُ مِن نَّفعهما، ويسئَلونَكَ ماذا يُنفقونَ قُلِ العَفو).
(يَسئَلُكَ النّاسُ عَنِ الساعةِ قُل إنَّما عِلمُها عِندَ اللهِ).
وغير ذلك كثير حتى بلغ (يسألونك) نحو خمسة عشر سؤالا وجهت للرسول في أوقاتمتباعدة، ونزل القرآن للرد عليها، فهل كان يتسنى الرد عليها لو أن القرآنكان قد نزل قبل ذلك بسنوات دفعة واحدة؟.
وهكذا تتجمع هذه الحكم والأسباب التي نستظهرها حسب علمنا وإدراكنا لتجعلمن نزول القرآن مفرقا هو عين الحق والصواب ممن هو أدرى من الخلق جميعاًبالحق والصواب..
ولكن مما ينبغي معرفته مع ذلك أنه ليس معنى نزوله مفرقا أن كل آية منهنزلت على دفعة، بل معنى نزوله مفرقا أن نزوله كان على دفعات وأوقات استمرتمن بدء البعثة، حتى توفي الرسول عليه الصلاة والسلام أي مدة ثلاث وعشرينسنة.. فقد ينزل جبريل بآية، وقد ينزل بآيات، وقد ينزل بسورة صغيرة، وقدينزل بسورة كبيرة كالأنعام مرة واحدة..
ومن السور التي نزلت دفعة واحدة: الفاتحة، الإخلاص، المعوذتان، المسد (تبت يدا أبي لهب)، الكوثر، البينة، المرسلات، الصف، الأنعام..
أما أغلبية سور القرآن فقد نزلت على دفعات.. وليس معنى ذلك أن النزول كانبالترتيب في السورة يعني تنزل الآيات الخاصة بسورة البقرة مثلاً علىدفعات، ولا ينزل غيرها، ثم يبدأ الوحي في سورة أخرى فتنزل آياتها علىدفعات، ثم تبدأ سورة أخرى وهكذا.. بل كانت الآيات تنزل، وجبريل يرشدالرسول الى أن هذه الآيات توضع في سورة البقرة مثلا قبل آية كذا أوبعدها.. ثم تنزل آيات أخرى بعد ذلك ويرشد جبريل إلى وضعها مثلا في سورة آلعمران وهكذا.. حتى إذا أتى رمضان من السنة نزل جبريل على الرسول يدارسه مانزل في السنة الماضية من القرآن بالترتيب الذي أرشد إليه، ولو كان جزءاًمن السورة، ثم إذا جاء رمضان آخر نزل جبريل يدارسه ما نزل من أول آية، حتىآخر ما نزل في العام للمدارسة بالترتيب، وهكذا، حتى آخر رمضان من حياةالرسول، وقد كاد القرآن يكتمل، إلا بعض آيات قليلة، فنزل جبريل يدارسه (أييقرأ على الرسول مرة ويستمع له مرة) ما نزل من القرآن كله من أول آية:(اقرأ باسم ربك) حتى آخر آية نزلت قبل انتهاء هذه المدارسة الأخيرة،بالترتيب الذي عليه القرآن الآن، فيقرأ من سورة البقرة ما نزل ، ومن سورةآل عمران ما نزل.. الخ. وهكذا انضبط أمر القرآن تماما..
----------------------------------
المصدر : علوم القرآن