نقابة مفتشي التعليم
الورقة التعليمية : مسألة التفتيش
لن تكون الورقة التعليمية لنقابة مفتشي التعليم غير محاولة تجسيد الشعار على وقائع التفكير في البعد الفلسفي والأنطلوجي والقيمي للنظام التربوي المغربي، وفي بعد الكينونة والوجود والفعل لهيئة تفتيش تأصل وجودها عبر التاريخ التربوي المغربي، ومر عبر حقب تاريخية متفاوتة الحضور والغياب والشتات حتى وعت في أخير هذا التاريخ ذاتها، واسترجعت أطراف جسمها المودعة عند من تنكروا لها وحاربوها في وجودها، وأفتوا بإلغائها بمنطق تدبير الشأن التعليمي خارج إطار التقويم، وبدعوى أن النظام التعليمي يمكن أن يقود نفسه دون جهاز تقويم اقتداء بأنظمة دول متقدمة، فحشروا نظاما تربويا مازال يبحث عن ذاته، ولم يستنبت بعد في ذاته ثقافة التخطيط العلمي المضبوط المنطلق من تحديد المنتوج أولا في ضوء ما هو موجود في السوق التربوي بتوظيف علم التقويم المقارن وباعتماد المعيرة بالاستفادة من المعايير الدولية في ظل مواصفات عالمية أو على الأقل إقليمية، ولم يستنبت بعد في ذاته كنظام قبل أن يكون فكرا تربويا ثقافة الواجب الموازية في القدر والصفة والنوع لثقافة الحقوق. ولم يوطن بعد في ذاته المساءلة والمحاسبة والتحفيز والتقويم الذاتي والتدبير بالنتائج ونظام الافتحاص الداخلي, وغير ذلك من موجبات التخطيط والتدبير والتتبع والتقويم المقاولاتي فضلا عن التخطيط، حيث تطغى عليه ثقافة الفردانية والمصلحة الخاصة والارتجال والتخبط ... نظام مازال يتلمس طريقه نحو الوجود رغم تاريخه الحافل بمحطات الإصلاح.
نظام تعليمي تكبر في ثناياه أسئلة العقلنة والضبط بما يوجب مساءلته عن فعل التخطيط ثم التنفيذ ثم التتبع ثم التقويم ثم التغذية الراجعة بما يصحح صيرورة الأداء. ونعلم أن التقويم جزء عضوي من أي أداء إنساني, وبما أن الفعل التعليمي فعل إنساني, فهو يطلب التقويم, لذا وجدنا النظام التعليمي المغربي يقول بالتقويم, لكن هل يؤمن به فعليا؟ وللجواب عن السؤال, سنسلك منحيين هما:
1 ـ منحى مساءلة النظام التدريسي حول التقويم في التدريس:
وهنا, لابد من الإشارة إلى أن التقويم لا يعني مطلقا الامتحانات الإشهادية أو المراقبة المستمرة, بل هو نظام متكامل له مداخله الأساسية ومتطلباته وشروطه. يبنى على تحديد المنتوج التربوي تحديدا دقيقا وكفاياته ومواصفاته فضلا عن تحديد التعلمات والأنشطة والموارد المتنوعة والمعينات البيداغوجية وتحديد الصيرورة التعليمية، ثم يأتي توطين التقويم من حيث محكاته وأدواته وإجراءاته والاستفادة من نتائجه. ومنه يمكن الاحتكام إلى هذه المرجعية بعد تنفيذ الفعل التعليمي. فهل ترى العملية التعليمية التعلمية تقوم بذلك ؟
إن القراءة السريعة في النظام التعليمي المغربي يفيد عدم وجود هذا التفكير المنطقي والمنهجي في تدبير الفعل التعليمي، لذا لم نجد مواصفات دقيقة مرجعية للمتعلم ولا كفايات محكمة بل وجدنا كلاما عاما لا يمكن ضبطه ولا قياسه, ولا يشكل هوية المتعلم, ومنه لا يمكن الإدعاء بقوة أن النظام التعليمي المغربي أخد بالتقويم وعمل على توطينه كمكون من بنيته, وبالتالي فهو لا يؤمن بالتقويم وبؤمن بالتمارين والامتحان, ويضفي عليهما صفة التقويم, والجميع يعرف حق المعرفة بأن التقويم يتعدى مفهومي التمارين والامتحان. فالباحث في الكتب المدرسية يجد تمارين أكثر منه تقويما، حيث تغيب عنها المرجعيات والمحكات التي يحتكم إليها المصحح، غير أنه في الآونة الأخير أخد النظام التعليمي ينحو نحو التقويم، ولكن بطريقة محتشمة.
فالنظام التعليمي المغربي يمارس التقويم في صيغ غير التقويم، وبالتالي لا يمكن أن نثبث له التفكير المنهجي فيما يخص بالتقويم. كما أنه لا توجد لديه محكات لتقويم أداء مكوناته، ويطغى عليها بعد الأقدمية والتاريخ اعتقادا بأن الكفاءة تساوي الأقدمية، في حين الأقدمية قد تكون عاملا مساعدا في الكفاءة، وعليه نجد اختلافا بين مقوم ومقوم آخر، وهو ما يبين أن المنظومة التربية والتكوينية المغربية ينقصها التقويم المعلن ضمن مرجعيته ومواصفات مداخله, وهو ما يثبت ثانية أن الفكر التربوي المغربي بعيد عن التقويم بمفهومه البيداغوجي.
2 ـ منحى مساءلة النظام التعليمي حول جهاز التقويم:
عند سؤال النظام التربوي والتكويني المغربي عن جهاز التقويم، تجده يجيب بإيجاب ويقول لدينا جهاز تقويم، لكن، وعندما تسأله عن سحنته ومواصفاته وأدواره وكفاياته وموقعه في القيادة داخل النظام، فهل يجيب بناء على تصور شامل وواضح؟ ثم هل فعلا هذا الجهاز هو جهاز افتحاص وتقويم وتأطير يساهم بقسط وافر في تطوير المنظومة التربوية أم هو جهاز موظفين فقط أسندت إليهم أدوار معينة في وقت ما من تاريخها, قد يكون التطور التربوي والهندسة التربوية والتكوينية تجاوزها إلى تصور شامل وعميق لجهاز التقويم؟ وهل يقوم هذا الجهاز في أبسط تصوره بالتقويم في إطار متطلباته وشروطه وأسسه ؟ أم هناك واقع يخالف هذا القول وينفيه أو يلبسه عليه الرؤية ؟
أسئلة تذهب بنا إلى التساؤل في مستويين متلازمين هما:
1 ـ مستوى التنظير لجهاز التقويم:
في هذا المستوى نسائل النظام التربوي والتكويني المغربي عن تصوره لجهاز التقويم والتأطير من خلال الأسئلة التالية:
ـ هل لدى المشرع التربوي المغربي تصورا كاملا لجهاز التقويم، بمعنى هل يمكن أن يقول لنا بوضوح ما هو جهاز التقويم لديه؟ وما كفاياته المطلوبة فيه والمتوافقة مع أدواره الاستراتيجية؟ وما أدواره المحددة التي تستجيب لمتطلبات النظام التعليمي نظريا وعمليا وتتساوق مع المستجدات العالمية والوطنية، التي تساهم بشكل كبير في جودة النظام التعليمي ومنتوجه التربوي وكفايته الداخلية والخارجية؟ وما الهيئة المناسبة التي تخدم أدوار هدا الجهاز وتساهم في فاعليته؟ وما موقع هذا الجهاز ضمن مفاصل النظام التعليمي؟ وهدا يؤدي بنا إلى طرح مسألة قيادة النظام التعليمي المغربي بمنطق العقل أولا وبمنطق الأولوية ثانيا، التي تعمل بفعالية في تحسين وتجويد التعليم. أي القيادة للجهاز الإداري أم لجهاز التقويم والذي نعني به هنا جهاز التفتيش؟ أيهما يضم البعد التربوي بوضوح، وهو البعد الذي يتموقع فيه المتعلم موقع المركز؟ فالقيادة الإدارية يتمركز تفكيرها التدبيري للشأن التربوي حول المسألة الإدارية والتجهيزات والبنايات وتصريف شأن الموارد البشرية وغيرها من المسائل الإدارية. في حين ينصب التفكير في القيادة التربوية لجهاز التفتيش حول المتعلم والشأن التربوي المحض المتعلق بالجانب البيداغوجي والديداكتيكي والعلمي، والبحث التربوي أي الانشغال الكلي بالبعد التربوي. والمنطق العقلي والتربوي والاجتماعي ومنطق التخصص يفيد أن الجميع موظف من أجل خدمة المتعلم، وعليه يجب أن تكون الإدارة في خدمة التربية، وليس العكس، لأن انشغال الإدارة بتصريف الشأن اليومي للتعليم يغيب المتعلم من تفكيرها. ولنضرب مثلا لذلك: حيث لا الإدارة عموما لا تكثرت بالاكتظاظ ولا بنوعية وجودة الكتب المدرسية وهي توزعها على قدم المساواة مراعاة للبعد الاقتصادي وللناشرين، في حين منطق القيادة التربوية لجهاز التفتيش يستحضر منطق الجودة في تبني الكتاب المدرسي، وبالتالي يقصي الكتب التي ليس فيها جودة.
ـ هل المشرع التربوي المغربي بما أصدر مؤخرا من وثائق تنظيمية يهيكل بها جهاز التقويم الذي هو جهاز التفتيش تشكل الوعاء الضامن لفعالية هدا الجهاز؟ هل تضمن له الاستقلالية الوظيفية؟ هل تضمن له الشروط الضرورية للتفعيل في الميدان؟ وهل تضمن له التجهيزات الكفيلة بقيام الأدوار المسندة إليه حاليا؟ وهنا تظهر المعضلة الكبرى، وهي أن القيادة الإدارية أو القيادة التدبيرية تتعامل معه بمنطق الصراع لا التفعيل والتكامل والانسجام. وبالتالي تحجب عنه كل الوسائل والضمانات الكفيلة بتفعيله داخل النظام التربوي، ومن تم تحجب عن المتعلم الفعالية التربوية وتغبنه من منطلق هش. وعليه فمطلب الاستقلالية الوظيفية مطلب يساوي مطلب استقلالية القضاء للقيام بواجبه بموضوعية وبعيدا عن أية ضغوط خارجية. وهنا كذلك تنبري معضلة تدبيرية وتربوية إلى الوجود بحدة، وهي: هل يمكن المطالبة بالاستقلالية الوظيفية وجهاز التفتيش يجمع ما بين التفتيش بمفهومه الضيق والتأطير التربوي؟ أي يساهم في بناء الكفايات الأساسية عبر التعلمات والموارد المختلفة من خلال تأطير هيئة التدريس والإدارة التربوية ثم يقوم بالتفتيش في نفس الوقت لما بناه ويدعي الخلل فيه ويسنده إلى جهات أخرى دون أن يتحمل مسؤوليته في ذلك الخلل؟ فكيف يمكنه أن يقوم بالافتحاص، وهو المفهوم الجديد الذي يجب أن يتبلور في فكرنا التربوي الحالي كنظام قائم الذات يمكن توطينه في المؤسسات التعليمية وفي الإدارة وفي التوجيه والتخطيط والاقتصاد التربوي، دون أن تكون عنده مسافة بينه وبين موضوع الافتحاص ؟ ومنه، لابد من طرح سؤال الفصل بين الافتحاص والتقويم مدخلا للمطالبة بالاستقلالية الوظيفية مع إنشاء تصور هيكلي لجهاز تفتيش له بعدين على الأقل هما :
ـ بعد الافتحاص،
ـ بعد التأطير والتكوين المستمر والمعالجة والمصاحبة ....
2 ـ مستوى الواقع المعيش لجهاز التفتيش أو جهاز التقويم:
يفيد هذا الواقع جملة من المشاكل تشكل إكراهات التفعيل بل رغبة التعطيل، وهي مشاكل وقضايا نعتقد أنها من واجبات الجهاز التدبيري فأصبحت بكم عدم القيام بها من مطلبنا النقابية منافية في الواقع طبيعتها الوجوبية، ولعل من أبرزها التالي:
ـ عدم تفعيل الهيكلة الجديدة رغم علتها، وهو ما يشل الجهاز برمته، وإن فعلت فهي على الأوراق فقط أو في مستوى الأمر أي تحت سقف توجيهات الجهاز التدبيري، حيث لا يوجد فيها استقلالية وظيفية ولا تفعيل إلا إذا أراد الجهاز التدبيري ذلك.
ـ عدم توفير الوسائل والتجهيزات والمقرات والسيارات ووسائل العمل في أغلب الأكاديميات فضلا عن توفير الهاتف النقال والمعينات المعلوماتية من حاسوب وطابعة وأنترنيت في بعض الأكاديميات، ومازال جهاز التفتيش يعمل يدويا وربما بالآلة الراقنة.
ـ عدم تمكين جهاز التفتيش من الاستقلالية الوظيفية ما يحول دون القيام بواجبه دون ضغط من الجهاز التدبيري، وهو ما يراكم المشاكل، وذلك بعدم تفعيل قراراته والمضايقة عليه في البعد النقدي للمنظومة التربوية والتكوينية، ما يحول دون تصحيحها وتطويرها والاستفادة من تصوراته وأطروحاته التصحيحية.
ـ تغييب بعد البحث التربوي من مهام التفتيش يغيب بعد الإبداع والابتكار في المنظومة التربوية، ويغيب التعاطي العلمي والمنهجي الدقيق لقضايا ومشاكل التعليم، وهو ما يترك الساحة التعليمية الميدانية لتراكم الأخطاء وتعاظم الضبابية والالتباس. وهنا لابد من الإشارة أن هيئة التفتيش رائدة في مجال البحث العلمي لتكوينها المتين فيه، وهي قادرة على إنجاز دراسات ذات متانة موضوعية ومنهجية وعلمية معتبرة ومعترف بها علميا.
ـ إجحاف جهاز التفتيش في حقوقه عمليا في الميدان ، ونكران ذلك عليه، وترتيبه في المرتبة الأدنى مع تناقض ظاهر وملموس في ذلك مع الأدبيات العالمية والوطنية ومع التشريعات والقوانين الجاري بها العمل يوجه بوصلته إلى موقع المطالبة بحقوقه، ويؤدي به إلى الانشغال بهموم جانبية دون الهم الرئيس الذي هو البعد التربوي في منظومة التعليم والتربية. وهذا الإجحاف يبين بالملموس المكانة والموقع الذي تضع فيه الوزارة جهاز التفتيش ومنه التقويم. وبالتالي فهي تنطلق في بنية التعليم من المؤسسة التعليمية، بينما الواقع يجب أن تشكل المنطقة التربوية بنية العمل التربوي باعتبارها الوحدة الأساسية في الهيكلة الجديدة لجهاز التفتيش. وبالتالي تتبين محورية البعد الإداري في الفكر التربوي المغربي واستقطابه للبعد التربوي واحتوائه، في حين العكس هو المسلك الصحيح. وعليه نطرح سؤال المبادئ المؤسسة للحوار مع الوزارة على النقاش من أجل بلورة تصور نقابي معلن من المؤتمر حولها.
من خلال هده اللمسات يظهر جليا أن موقع جهاز التفتيش كتعبير عن موقع التقويم في المنظومة التربوية والتكوينية موقع جد متأخر مقارنة بموقع جهاز التدبير، وهذا ناتج عن التفكير الإداري الذي يدبر هذه المنظومة منذ فجر الاستقلال إلى يومنا هذا، ولم يدخل بعد إلى التدبير المقاولاتي الذي يعتمد أسسا جد متطورة في تصريف شؤونه المتنوعة. وعليه نسأل:
ـ ما الكينونة المنشودة لجهاز التفتيش في ظل مستجدات المنظومة التربوية والتكوينية؟
ـ ما تفاصيل هذه الكينونة مدخلات ومخرجات وسيرورة؟
ـ ما الهيكلة الضامنة لهذه الكينونة، والضامنة لتفعيلها؟
ـ ما الأدوار المتجددة والاستراتيجية لجهاز التفتيش المتوافقة مع متطلبات النظام التعليمي في ألفية المعرفة؟
ـ ما دواعي الاستقلالية الوظيفية في ظل الجمع بين الافتحاص والتأطير والتكوين المستمر والمصاحبة والمواكبة...؟
ـ ما السبل الفكرية والمنهجية المفضية إلى الإقناع بأهمية الاستقلالية الوظيفية لجهاز التفتيش مع المدبر الرئيس لمنظومتنا التعليمية؟
ـ ما الشروط والمداخل العملية والإجرائية والميدانية الكفيلة بتحقيق فعالية جهاز التفتيش؟ وكيف السبيل إلى مساءلته وتحفيزه ؟
هذه الأسئلة وغيرها هي جوهر مساءلة الذات قبل الآخر، والإجابة عنها من خلال الورشات كفيلة بوضع تصور شامل لجهاز التفتيش وتصور كامل عن الذات في واقعها وفي مستقبلها وفي آمالها وانتظاراتها فضلا عن مساءلة ونقد ذاتها. فنقد الذات ينم عن وعي متقدم واستباقي في هذا العصر.
نقابة مفتشي التعليم