[ حينـما نحـضـُن السـَّرابْ ]قصة

إننا نُتقن دومًا كيف
نجمِّل مظهرنا ونُسرِّح شعرنا، ونُنمِّق هندامنا، ونُرشرش العِطر على
أجسادنا، ونمضي وفي أيدينا الهدايا والعطايا للأحبة والمقربين.

لطالما كان للهدية قيمة
فُضلى، أو هكذا كنتُ أظن دومًا، فأحاولُ جاهدةً أن أنتقي الهدية المناسبة،
للأشخاص المناسبين، في المواقف المناسبة.

تمضي الأعياد، وتحل
المناسبات، بعضها أعراسٌ وأخرى حفلاتٌ متنوعةٌ، وحتى في الأحزان والمناسبات
الأليمة نبقى، كما تعلمنا من عاداتنا، وما ورثناه من تقاليدنا، أن لا ندخل
على بيتِ المحزون فارغِي الأيادي.

فلتلك العطايا شيءٌ ما بأنفس الواهبين، وشيءٌ في نفوس الموهوبين، وتعم اللحظات تلك شيء من المُتع الخفية..

وحده ذلك المكان الذي لا أجرؤ للتزين له، ولا أعرف ما أحمله إليه ؟!

رغم أني لا أحمل معي حزني وأساي وتعبي، بالعكس تمامًا، أحمل لوعتي واشتياقي ولهفتي للقيا أمـِّي..

لا أدري ما مدى غرابة
هذا القول، ولو أني سمعتُه من غيري قبل أن أذوق طعم الموت لما كنتُ فقهتُ
كيف تعمّ اللهفة قلبَ حيٍ يذهب لزيارة ميت؟

نعم أذهب حُبلى بالأشواق، تولـَد كلها بمجرد أن تطأ عيناي ذاك المكان...

تلك الحياة الغربية
التي تختفي وراء الأسوار.. تلك الحياة المخيفة التي نعلم عنها الكثير ولا
نعيه، نسمعه ولا نعقله، نُدركه ولا نُحسه..

ذاك السور الطويـل
الطويـل الطويـل... الذي يدور حول ملايين البيوت التي لا تُشبه بيوتنا، يضم
داخله أفئدة بعضها فزعى والأخرى في رضى، وآخرون بين هذا وذاك..

ذاك السور الغريب يحوي
روح أمـِّي.. مَن كان ليصدق أنني أصبحتُ حين أشتاق أمي أهرع إليها إلى أرض
مسطحة لا بيوت فيها ولا قصور؟، لا حدائق ولا زهور.. بل مجرد قبور متوزعةٍ
على تلك الأرض الشاسعة الواسعة، التي سرعان ما تمتلئ قبورًا آخرين وسكنات
أخريات لأشخاص جدد، سنكون منهم نحن يومًا ما..

لا أحمل لأمـّي
الهدايا، ولا أجلب لها العطايا، أمـِّي التي تعشق لحظة المِنح تلك، ولطالما
كانت تـُسرُّ حينما أجلب لها شيئًا، مهما كان رمزيًا، ها أنذا اليوم أقف
عاجزةً لا أجد ما أقدمه، ولا أعرف كيف أقدمه، يعتصر قلبي حنينًا، أحتاج
قبلةً منها وضمة على الصَّدر، فتصدر روحي حشرجة مُرةً كيف يا تـُرى لا يقدر
الزائر على تقبيل حبيبه، وضمه لصدره، وتبليغه مدى حنينه ولوعته..

كلهم يزورون أحبتهم
وأنا ألحظُهم، لا أحب أن تفوتني قراءة التواريخ المكتوبة على قبورهم،
فأقارن سنة وفاتهم بملامح أحبائهم، لأرى الفرق بين السنين وبين الحنين..
فلا أجد سوى علامة الاستفهام تقبع في ذاكرتي، تريد أن تنظر للبعيد وما
يحمله..

قبر أمـّي به لون
الخشية.. ممزوج بالفرحة، مكتوبٌ اسمها على تلك الحجرة التي تلوِّح لي من
بعيد، فأعرف المكان ولو تغيرتِ الأحوال، تربة القبر حية، ملمسها لا أعرفه،
فأنا لم أجرؤ على تحسُسِها، روح أمي أحسُها ولكن لا قدرة لي على ضمّها..
يقولون أن الميت يحس بزائره فتحدثوا معهم فإنهم يسمعون.. أغوص في نفسي فأجد
أنني لم أتوقف يومًا عن الحديث معها، وليس هذا بجديد عليّ.. فما الجديد
الذي سأهديك إياه أمـّي؟

ما أصعب أن تنام أمك
تحت الأرض، ولا تستطيع لمسها، ما أصعب أن تريد أن تحضنها فلا تحضن غير
السراب، ما أصعب أن تفكر مجرد التفكير أنك تعيش فوق الأرض تتكلم وتحيا
وتتنفس وتضحك حتى... ولا تجد أمك التي لم تفارقك يومًا في جميع مراحل
حياتك.

كم تُحس بالضعف يا إنســان..
كم يستتب بك الضعف.. ولكنك تُدرك أنك لا تملك من الحياة سوى عبوديتك
لخالقك، فلو أنك كنتَ قويًا لأعَدْت الحياة لأحبائك، ولو كنت عظيمًا لصبرت
على فراقهم، ولكنك ضعيف لا تملك غير دعواتك، وصبرك واصطبارك، فما أنت
فاعـل؟!

أعـُود أدراجي أنا، خاوية كما ذهبت خاويـة، ولم أفلح في أيـَّة مرة أن أجلب لها شيئًا أو أجلب لي منها شيئًا.. لأن كل شيء انتهى
كل شيء.

تحياتي لكم
شمس المنتدى