سَنَةٌ مَضَتْ..
وَكَذَا السِّنُونَ..
مُضِيُّهَا طَيْفٌ بِسُرْعَتِهِ خَفَتْ..
تَمْضِي وَتَحْكِي كُلَّ حَادِثَةٍ سَرَتْ..
تَمْضِي وَقَدْ كَتَبَتْ مِنَ العَجَبِ العُجَابِ وَسَطَّرَتْ..
تَمْضِي وَتُفْشِي سِرَّهَا..
وَتَنُوحُ لَوْ هِيَ أَسْمَعَتْ..
يَا صَاحِ قَدْ بُحَّتْ حِبَالُ الصَّوْتِ..
بَلْ هِيَ بِالصُّرَاخِ تَمَزَّقَتْ..
أَمْضِي عَلَيْكَ وَأَنْتَ فِي الغَفَلاَتِ..
قَدْ مَنَّيْتَ نَفْسَكَ مَا اشْتَهَتْ..
أَمْضِي عَلَيْكَ وَجُعْبَتِي مَلْأَى..
وَفِي أَحْشَائِيَ الْحَرَّا تَجَارِبُ هَذِهِ الدُّنْيَا..
وَأَنْتَ وَأَنْتَ لاَ قَلْبٌ وَعَى عِبَرًا وَلاَ أُذُنٌ صَغَتْ..
تَحْمل حادثةُ الهجرة النبوية - على صاحبها أشرف الصَّلاة وأتَمُّ
التسليم - الكثيرَ من الإلهامات للسائرين في دَرْب الدعوة إلى الله تعالى،
فهي أُنْموذج ربَّاني من البَذْل والتضحية، وهَضْم النَّفْس في سبيل الوصول
إلى الغاية الكبرى التي من أَجْلها خلَق الله هذه الدُّنيا، وقد تُثار في
النَّفس تساؤلاتٌ واندهاشات عدَّة عن أحداث السِّيرة بتفاصيلها النَّوعية؛
فما المعنى في أن يترك العبدُ ديارَه وأرضه التي نشأ بين جنباتِها، والتي
بين كلِّ ذرَّة من ذرات ترابِها ذِكْرى من أيَّامه السالفة، عَذْبَة أو
مُرَّة لا يهم، المهم أنَّها ذكرى مَحْفورة في ضميره، يستحضرها كلَّما
هبَّتْ نسائم ذلك البلد، أو اشتمَّ عبَقَ القادمين من جهته.
وما المعنى في أن يهجر الإنسان أهله ومالَه وعشيرته؛ لينْزِل أرضًا جديدة لا يعرفها، بلا مالٍ، ولا مأوى، ولا عشيرة؟!
بل وما المعنى في أن يدع أبناءه وزوجتَه ووالدَيْه وأهله بين ظهرانَيْ
أعدائه؛ ليفرَّ بِنَفْسِه إلى أرض قد لا يلقى فيها قبولاً ولا ترحيبًا؟!
إنه لا معنى لكلِّ ذلك سوى الإسلام، دين الله تعالى، الذي
يَهُون بِجانبه كلُّ غالٍ وعزيز، فمهما عزَّت الأوطان والديار والضيعات
فالإسلام أعزُّ، ومهما تعلَّقَت القلوب بالأبناء والزوجات فإن تعلُّقَها
بالإسلام أشدُّ، ومهما منعت الأموال والعشيرة فالإسلام أقوى وأمْنَع.
لقد أدرك مُسْلِمو الجيل الفريد أنَّ حياتَهم في الإسلام هي الحياة
الحقيقية، وأن قوَّتَهم في الإسلام لا فيما سواه، وأنَّ اطمِئْنان قلوبِهم،
وراحةَ أفئدتِهم في الإسلام، لا فيما سواه، وأن عِزَّهم وشرفَهم في
الإسلام لا فيما سواه، وأنَّ وجودَهم رهْنٌ بوجود الإسلام، وأنَّه لا
الأولاد ولا الأموال، ولا الأوطان ولا التُّراب، أَوْلَى بتضحية الإنسان
بنفْسِه من الإسلام؛ لذا كان غايةُ ما يتمَّنون أن تُجْدَع أنوفهم،
وتُبْقَر بطونُهم، وتتخطَّفَهم الطَّيْرُ أو تَهْوِي بِهم الرِّيح في مكانٍ
سحيق، وتأكل أشلاءَهم السِّباعُ في سبيل الإسلام، كانت غايةُ آمالهم أن
يكونوا جسرًا يَعْبر عليه الناس إلى دين الله أفواجًا، أو حلقة في سلسلة
الدَّعوة والجهاد على مرِّ تاريخها؛ لذا لَم يتمكَّن منهم عدوُّهم تاريخَهم
كلَّه، بل كان أعداؤهم أشدَّ خوفًا منهم على ضآلة أجسامهم، وضعْفِ
قوَّتِهم، وقلة حيلتهم، ونقص عتادِهم، فكانوا يواجهون الموت بقلوب جسور،
يواجهونه ولا يخشونه، بل كان أحَدُهم يسعى إليه سعيًا، وكان شِعارهم:
إِذَا كَشَفَ الزَّمَانُ لَكَ القِنَاعَا وَمَدَّ إِلَيْكَ صَرْفُ الدَّهْرِ بَاعَا
فَلاَ تَخْشَ الْمَنِيَّةَ وَالْتَقِيهَا وَدَافِعْ مَا اسْتَطَعْتَ لَهَا دِفَاعَا
|
كانوا يَحْرِصون على الموت أشدَّ ما يكون حرصُ أعدائهم على الحياة؛ لذلك وُهِبَت لهم الحياة، ودانت لهم الدُّنيا بِحَذافيرها.
إنَّ الهجرة النبويَّة كانت تعني - بالمفاهيم البشريَّة - انتحارًا مؤكَّدًا،
فكتائب الأعداء متربِّصة بالنبِيِّ وآله، مدجَّجة بالسِّلاح؛ لاستئصال
شأفته، والقضاء على دينه، ولكن المشيئة الربَّانية لا مُعَقِّب لها، ولا
رادَّ لقضائها، حتَّى تبدَّلَت العتمة الكونيَّةُ نقطةَ انطلاقة كبرى نَحْو
النَّصر المنشود والنُّور المبين الذي غطَّى ظلام البشريَّة، مُسْفِرة عن
وضع أول حجَرٍ في صَرْح الدولة الإسلامية الناشئة.
البَذْل والتَّضحية هُما العنوان الرَّئيس لِهِجرة النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه،
فكما بذَلَ المهاجرون مُهَجَهم وأموالَهم وديارهم ووطنَهم، فقد بذَلَ
الأنصارُ كذلك كلَّ ما يَمْلِكون في سبيل النُّهوض بالدَّولة ونُصْرة
الملَّة، عن طيب نَفْس ورضا خاطر لا مثيل لَهما في التاريخ، فضحَّوْا
بالأموال والدِّيار والزَّوجات في سبيل إيناس وَحْشة إخوانِهم من
المهاجرين؛ تعويضًا لَهم عن قسوة الحال، وتسليةً لقلوبِهم عن مُفارقة
أحبابِهم وأوطانهم، ويا له من شعورٍ عَزَّ وجودُه، ومشاركةٍ وجدانيَّة
عميقة أعقبها عطاء بلا حدود، قابَلَها تعفُّف ورُقِيٌّ واستغناء من
المهاجرين لا مثيل له كذلك.
إنَّ الدعواتِ الناشئةَ تَحْتاج إلى أرض خصبة لا تَمجُّها ولا
تَلْفظُها، بل تستوعبها وتَحْتضنها وترعاها وتنمِّيها؛ ليخرج من بَيْن
طينتها زرعٌ يافع قويٌّ يقدر على المواجهة، ويعالِج الصِّعاب، أما الرَّفض
المُطْلَق فإنَّه أعدى أعداء الدعوات، يقتلها في مَهْدِها، ويسدُّ دونها
الأبواب، ويصمُّ دونَها الآذان، فالحُرِّية مطلب أساسٌ ينبغي أن يلحَّ في
طلَبِه الدَّاعون إلى الله، أمَّا أجواء القَمْع والكبت فإنَّها أجواء
مُفْعمة بالفيروسات الدَّعويَّة، والبكتريا القاتلة، والأوبئة الفتَّاكة،
ومتَى ما ركن الدَّاعي إلى الله إلى مجتمع كهذا، فإنه سيضطرُّ ولا شكَّ إلى
المصانعة والمداهنة وتقديم التنازلات.
فإنْ تدهوَرَتْ أحوال حريَّة التبليغ في بلد، فأَرْضُ الله تعالى واسعة،
وهذا ليس مَثْلبة في حقِّ العالِم أو الدَّاعي إلى الله أن يترك بلدَه
مُهاجرًا إلى الله ورسوله، ما دامَتْ سُدَّت في وجْهِه جَميعُ منافذ الخير،
وتقهقر الحال حتِّى بلغَت الابتلاءاتُ مداها، وأصبح الدَّاعية طاقة
مُهْدرة، وعزيمة معطَّلَة في المُجتمع بعد أن كان شعلة خير وقّادة، فسياسات
المَنْع والرَّفض والحيلولة دون المربِّي والمدعُوِّين سياسة قاتلة، لا
سيَّما في أوقات الأزمات التي تستدعي استغلالَ كلِّ جهد، وبذْلَ كلِّ طاقة.
ورغم حالة الرَّفض المكِّي التي مارسَتْها قريشٌ إلاَّ أن القرآن اخترق
الأَسْماع، ونَفذَ إلى الأفئدة فأَسَرَها، وأمسك بزِمامها، وساقها إليه
سوقًا دون استئذان، وكان لهؤلاء النَّفَرِ الأفذاذِ الأوائل الفضْلُ الكبير
في ترسيخ المبادئ الإسلامية فيمن أعقَبَهم، وفي نُصْرة الدِّين بين
أقوامهم، حتَّى إن مَنْ قَبِل منهم الدعوة ولم يُسْلِمْ - لاعتبارات شخصية
أو تطلُّعات هوائية أو نعراتٍ قبلية - كان له تأثيرٌ قويٌّ في مسيرة
الدَّعوة آنَذاك، كأبي طالب عمِّ النبِي - صلَّى الله عليه وسلَّم -
بوصْفِه شخصيَّة كبرى، لَها وزْنُها في المجتمع القرشيِّ، حسبًا ونسبًا
ومنصبًا في القبيلة.
فكذلك ينبغي أن تهتمَّ الدَّعوات باستمالة المتنفِّذين وأصحاب الوجاهات والتِّجارات؛
فهُم أشَدُّ ما يكونون تأثيرًا إذا ما تشرَّبَت قلوبُهم بالمبادئ
والأخلاق؛ فهم دُعاة صامتون بِمَناصبهم ومواقعهم، وحُسْن معاملتهم، وهم
دعامة أساسية في نُصْرة الدِّين، ودَحْر أعدائه، وتثبيط هِمَمِهم وعزائمهم،
فإنِ استطال الكافر والمنافقُ على الدَّاعية البسيط أو المُسْلم المسالِم،
فإنَّه لا يستطيع مواجهة ذَوِي النُّفوس الطيِّبة من الْمَسْؤولين وأصحاب
المناصب، فهم عقَبةٌ كَؤُود في وجْه مُخطَّطات العَلْمنة والتَّغريب
والإفساد، وفي المقابل هم وسيلة من وسائل إقناع العامة بقوة هذا الدِّين،
وقدرته على التكيُّف مع أوضاع البُسَطاء من جانب، والأغنياء ومسؤولي
الدَّولة من جانبٍ آخَر، بل إنه يَزِيد صاحب المنصب وجاهةً ورفعة وعزة،
ويُذيع صيتَه بِخُلُقِه الحسن وضميره الحي.
لقد كانت الهجرةُ إيذانًا بتحوُّل دفَّة الحياة في هذه الدُّنيا إلى
وجهة جديدة، وإلى قيادةٍ جديدة، وإلى أمَّة ربَّانية جديدة، تأخذ
بتلابيبِها إلى الله تعالى، وتقيمها على شِرْعته ومنهاجه، تزين بها
ناصيتها، وتُعْلي بها هامتها، وترفع بها اسْمَها، فكان الإسلام زينةَ
الدِّيانات السابقة، ومنارةً كُبْرى من منارات الْهُدى في الكون، ازدانَتْ
به الأرض حتَّى فتح الدُّنيا، فكان إكليلاً جَمَّل أعناق الفاتحين، وتاجًا
زيَّن رؤوس المُحاربين والدَّاعين.
إن الدعوة الإسلامية الآن بحاجةٍ ماسَّة إلى كل قطرة عرَقٍ تسقط من
جَبين داعية أو عالِم، وإلى كلِّ نقطة دمٍ تسقط من جُرْحِ مُجاهد، وإلى كل
جرعة حِبْر من قلم باحث أو كاتب، وإلى كل شاردة وواردة من عقل مفكِّر، وإلى
كل بَحَّة في صوت خطيب، وإلى كل ضربة قاصمة في سيفِ بطَلٍ مقاتل، وإلى
كلِّ دقيقة في وقت مُرَبٍّ وزارع للقيم في النُّفوس.
إن هذا الدِّين لن تقيمه فضولُ أوقات الدَّاعين إليه، ولا
تنصره زلاَّتُ أقلامهم وألسنتهم، فالنُّفوس المشغولة والمنشغلة لا تقوم على
أكتافها الدعوات، فالمشغول لا يُشغَل، وقضية الإسلام لا تقبل لها في
النُّفوس شريكًا، فإنَّها تستحوذ على القلب، وتأخذ بِمَجامعه، فلا تدع فيه
لغيرها هَمًّا، وهذا هو معنى الهجرة الحقيقيُّ، لا ما يتردَّد كلَّ عامٍ
عنها بطريقة رتيبة، وعرض سمج مُمِلٍّ، إننا نحتاج أقصى ما نحتاج إلى أصحاب
قضية، يَحْملون همَّ هذا الدِّين، ويعيشون به وله، ويَسْعَون لِمَجده ليلاً
ونَهارًا، أمَّا هَمُّ اللقمة والمسكن والملبس، فهي أمور ثانويَّة في
حياتِهم، أو ينبغي أن تكون كذلك، بل هي لا تُمثِّل شيئًا فيها، فالأمر أعجل
من ذلك، والمرء يعيش حياتَه في سباق مَحْموم بين دُنْياه وآخرته، ولكنْ
جارَتِ الدنيا على الآخرة جَوْرًا عظيمًا حتَّى لم تدَعْ لها في نفس المسلم
نصيبًا، إلا عبادات مفروضة يؤدِّيها بلا قلب؛ ظانًّا أنه بذلك أدَّى ما
عليه تجاه دينه ورَبِّه، وحاشا أن يكون الأمر كذلك، فدُنيا المسلم قنطرة
إلى الآخرة، لم يُتعبَّد أو يؤمر بتزيينها وتَجْميلها، وإنَّما هو
مُتَعبَّد بتذليلها لأهدافه وغاياته؛ لتحقيق هدفٍ أكبر، والوصول إلى غايةٍ
أعظم، وهي نَشْر "لا إله إلا الله" في الأرض، والإيمان بِها، والإذعان لها، وتربية الأجيال التي تَحْمل مشاعل الإيمان، فتنير بها طريق النُّفوس التائهة الحائرة:
وَمِنِ ابْتَغَى الإِصْلاحَ فِي أَرْضِ الْوَرَى رَكِبَ الشَّدَائِد وَامْتَطَى الأَهْوَالاَ
تحياتي لكم شمس المنتدى
|