معاهدة اليهود وبدء القتال
هذا، وقد علمتَ أنه كان يضاد المسلمين في المدينة فئتان: اليهود والمنافقون ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قَبِلَ من هؤلاء ظواهرهم وعقد مع أولئك عهداً مقتضاه ترك الحرب والأذى فلا يُحَارِبهم ولا يؤذيهم ولا يعينون عليه أحداً وإن دهمه بالمدينة عدو ينصرونه وأقرّهم على دينهم.
مشروعية القتال
قد عُلم مما تقدم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يقاتل أحداً على الدخول في الدين، بل كان الأمر قاصراً على التبشير والإنذار، وكان الله سبحانه ينزل عليه من الآي ما يقوّيه على الصبر أمام ما كان يلاقيه من أذى قريش، ومن ذلك قوله (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ)[1]. وكان كثيراً ما يقصّ الله عليه أنباء إخوانه من المرسلين قبله ليثبت به فؤاده ولما ازداد طغيان أهل مكة ألجؤوه إلى الخروج من داره بعد أن ائتمروا على قتله فكانوا هم البادئين بالعِداء على المسلمين حيث أخرجوهم من ديارهم بغير حق فبعد الهجرة أذِن الله للمهاجرين بقتال مشركي قريش بقوله (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[2] وبذلك لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يتعرض إلا لقريش دون سائر العرب فلما تمالأ على المسلمين غيرُ أهل مكة من مشركي العرب واتحدوا عليهم مع الأعداء أمر الله بقتال المشركين كافة بقوله: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً)[3] وبذلك صار الجهاد عامّاً لكل مَنْ ليس له كتاب من الوثنيين وهذا مصداق قوله عليه الصلاة والسلام: «أمرتُ أن أُقاتل الناسَ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ اللهِ ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاةَ فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءَهُم وأموالهم إلا بحق الإسلامِ وحسابهم على الله»[4] ولما وجد المسلمون من اليهود خيانة للعهود حيث أنهم ساعدوا المشركين في حروبهم أمر الله بقتالهم بقوله: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآء إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ)[5] وقتالهم واجب حتى يدينوا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ليأمن المسلمون جانبهم وصار قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعداء على هذه المبادئ الآتية:
اعتبار مُشرِكي قريش محاربين لأنهم بدؤوا بالعدوان فصار للمسلمين قتالهم ومصادرة تجارتهم حتى يأذن الله بفتح مكة أو تعقد هدنة وقتية بين الطرفين متى رُئِيَ من اليهود خيانة وتحيّز للمشركين قوتلوا حتى يؤمن جانبهم بالنفي أو القتل متى تعدّت قبيلة من العرب على المسلمين أو ساعدت قريشاً قوتلت حتى تدين بالإسلام كل من بادأ بعداوة من أهل الكتاب كالنصارى قوتل حتى يذعن بالإسلام أو يعطي الجزية عن يدٍ وهو صاغر كل من أسلم فقد عصم دمه وماله إلا بحقه والإسلام يقطع ما قبله وقد أنزل الله في القرآن الكريم كثيراً من الآي تحريضاً على الإقدام في قتال الأعداء وتبعيداً عن الفرار من الزحف فقال تعالى: (فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحياةَ الدُّنْيَا بِالاْخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)[6] وقال تعالى : (يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادْبَارَ (15) وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَآء بِغَضَبٍ مّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[7]
بدء القتال
كانت عادة قريش أن تذهَب بتجارتها إلى الشام لتبيع وتبتاع\ ويُسمى الركبُ السائر بهذه التجارة عِيْراً وكان يسير معها لحراستها كثير من أشراف القوم وسَرَاتِهم ولا بد لوصولهم إلى الشام من المرور على دار الهجرة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصادِرَ تجارتهم ذاهبةً وآيبة ليكون في ذلك عقاب لمشركي مكة حتى تضعف قوتهم المالية فيكون ذلك أدعى لخذلانهم في ميدان القتال الذي لا بدّ أن يكون لأن قريشاً لم تكن لتسكت عمّن سفَّه أحلامهم وعاب عبادتهم خصوصاً وهم قدوة العرب في الدين.
سرية حمزة بن عبد المطلب إلى العيص
ففي شهر رمضان أرسل عمَّه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين رجلاً من المهاجرين، وعقد لهم لواء أبيض حمله أبو مَرْثَد حليف حمزة، ليعترض عِيراً لقريش آيبة من الشام، فيها أبو جهل وثلاثمائة من أصحابه المشركين، فسار حمزة حتى وصل ساحل البحر من ناحية العِيص فصادف العير هناك، فلما تصافّوا للقتال حجز بين الفريقين مَجدِيُّ بن عمرو الجُهني فأطاعوه وانصرفوا، وشكر عليه الصلاة والسلام مجدياً على عمله لما كان من قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم.
سرية عبيدة بن الحارث إلى رابغ
وفي شوال أرسل عُبيدة بن الحارث ابن عم حمزة في ثمانين راكباً من المهاجرين، وعقد له لواء أبيض حمله مِسْطَح بن أُثَاثة ليعترض عيراً لقريش، فيها مِئَتا رجل، فوافوا العير ببطن رابغ فكان بينهما الرمي بالنبل، ثم خاف المشركون أن يكون للمسلمين كمين فانهزموا، ولم يتبعهم المسلمون، وفرّ من المشركين إلى المسلمين المقداد بن الأسود وعتبة بن غَزْوان وكانا قد أسلما وخرجا ليلحقا بالمسلمين.
وفيات
وفي هذه السنة توفي من المهاجرين عثمان بن مظعون أخو الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاع أسلم قديماً، وهاجر الهجرتين، ولما دفن أمر عليه الصلاة والسلام بأن يُرَشَّ قبره بالماء، ووضعَ على قبره حجراً، وقال: «أَتَعَلَّمُ به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي»، وهذا كان القصد من وضع الأحجار على المقابر، لا ما يقصده أهل العصور الأخيرة من تشييد الهياكل على القبور، وتصويرها بصور تُرَى في عين الناظر كالأصنام، ليأتي أقارب الميت ويصنعوا عندها احتفالات كثيرة، تشبه ما كان يفعله مشركو مكة عند معابدهم، ومن العبث فعل شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بأمور الآخرة.
ومات من الأنصار أسعدُ بن زُرارة أحد النقباء الاثني عشر، كان رضي الله عنه نقيب بني النجار، ولما مات اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه للنقابة عليهم لأن ابن أخت القوم منهم
ومات أيضاً البراء بن معرور أحد النقباء، وهو الذي كان يتكلم عن القوم في العقبة الثانية.
ومات من مشركي مكة في هذه السنة الوليد بن المغيرة، ولما احتُضر جزع فقال له أبو جهل: ما جزعك يا عم؟ فقال: والله ما بي من جزع من الموت، ولكن أخاف أن يظهر دين ابن أبي كبشة بمكة، فقال أبو سفيان: لا تخفْ إني ضامن ألاّ يظهر. وفيها أيضاً مات العاص بن وائل السهمي. وقد كفى الله المسلمين شر هذين الشقيّين.
السنَّة الثانية : غزوة وَدَّان الأبواء
ولاثنتي عشرة ليلة خَلَت من السنة الثانية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد أن استخلف عليها سعد بن عبادة ليعترض عيراً لقريش فسار حتى بلغ وَدّان وكان يحمل لواءه عمّه حمزة ولم يلق هناك حرباً لأن العير كانت قد سبقته وفي هذه الغزوة صالح بني ضمرة على أنهم آمنون على أنفسهم ولهم النصر على من رامَهم وأن عليهم نُصْرَةَ المسلمين إذا دُعوا ثم رجع إلى المدينة بعد مضي خمس عشرة ليلة.
غزوة بُواط
ولم يمض على رجوعِه غير قليل حتى بلغه أن عيراً لقريش آيبة من الشام فيها أمية بن خلف ومائة من قريش وألفان وخمسمائة بعير فسار إليها في مائتين من المهاجرين وذلك في ربيع الأول وكان يحمل لواءه سعدُ بن أبي وقاص فسار حتى بلغ بُواط فوجد العير قد فاتته فرجع ولم يلقَ كيداً وذلك كله لما كان يأخذه المشركون من الحذر على أنفسهم والاجتهاد في تعمية أخبارهم عن أهل المدينة.
غزوة العُشَيرة
وأعقب رجوعه عليه الصلاة والسلام خروج قريش بأعظم عيرٍ لها فقد جمعوا فيها أموالهم حتى لم يبق بمكة قرشي أو قرشية لها مثقالٌ فصاعداً إلا بعث به في تلك العير وكان يرأسها أبو سفيان بن حرب ومعه بضعة وعشرون رجلاً فخرج لها الرسول صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى ومعه مائة وخمسون من المهاجرين واستخلف على المدينة أبا سلمَة بن عبد الأسد وحمل لواء عمه حمزة ولم يزل سائراً حتى بلغ العُشَيْرة فوجد العير قد مضتْ وحالفَ عليه الصلاة والسلام في هذه الغزوة بني مُدلِج وحلفاءهم ثم رجع عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ينتظر هذه العير حينما ترجع.
غزوة بدر الأولى
وبعد رجوعه عليه الصلاة والسلام بقليل جاء كُرْزُ بن جابر الفِهري وأغار على سَرْح المدينة وهرب فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم في طلبه واستخلف على المدينة زيدَ بن حارثة الأنصاري وحمل لواءه علي بن أبي طالب سار حتى بلغ سَفَوان وتُسمى هذه الغزوة بدراً الأولى.
سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة
وفي رجب من هذه السنة أرسل سرية عدّتها ثمانية رجال يرأسها عبد الله بن جحش وأعطاه كتاباً مختوماً لا يَفُضُّه إلا بعد أن يسير يومين ثم ينظر فيه فسار عبدُ الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه إذا نظرت كتابي هذا فامضِ حتى تنزل نَخْلَةَ فترصُدَ بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم وإنما لم يخبرهم عليه الصلاة والسلام بمقصدهم وهم بالمدينة حذراً من شيوع الخبر فيدل عليهم أحد الأعداء من المنافقين أو اليهود فترصد لهم قريش ولا يخفى أن عدد السرية قليل لا يمكنه المقاومة.
ثم سار عبد الله رضي الله عنه ، وفي أثناء السير تخلَّف سعد بن أبي وقّاص وعُتبة بن غَزوان لأنهما أضلا بعيرهما الذي كانا يعتقبانه، وسار الباقون حتى وصلوا نخلة فمرّت بهم عِير قرشية تريد مكة فيها عمرو بن الحَضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل، والحَكم بن كَيسان، فأجمع المسلمون أمرهم على أن يحملوا عليهم ويأخذوا ما معهم، فحملوا عليهم في آخر يوم من رجب، فقتلوا عمرو بن الحضرمي، وأسروا عثمان والحكم، وهرب نوفل، واستاقوا العِير وهي أولُ غنيمة غنمها المسلمون من أعدائهم قريش ثم رجعوا، ولم يتمكن المشركون من اللحاق بهم. فلما قدموا المدينة وشاع أنهم قاتلوا في الأشهر الحرم، وعابتهم قريش واليهود بذلك، عَنَّفَهم المسلمون، وقال لهم عليه الصلاة والسلام: «ما أمرتُكم بقتال في الأشهر الحُرم» فندموا، فأنزل الله: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)[8] فَسُرِّي عنهم.
وقد طلب المشركون فداء أسيريهما، فقال عليه الصلاة والسلام «حتى يرجعَ سعد وعتبة»، فلما رجعا قَبِلَ عليه الصلاة والسلام الفدية في الأسيرين، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه وبقي مع المسلمين، وأما عثمان فلحق بمكة كافراً.
[1] سورة الأحقاف 35
[2] سورة الحج 39
[3] سورة التوبة 63
[4] رواه الشيخان
[5] سورة الأنفال 58
[6] سورة النساء 74
[7] سورة الأنفال من 15 إلى 16
[8] سورة البقرة 217