الأزمة الحقيقية للتعليم بالمغرب
« ... يعمل السيد فلان في فضاء غير لائق تربويا، عبارة عن ركن من مسجد لم يكتمل بناؤه بعد، فهو عبارة عن جدران بدون بلاط به أتربة كثيرة وغير مضاء وغير مهوى فيه محملان للأموات (..)
ورغم ذلك أسس المعلم في أحد أركانه مجلة حائطية .»
كان هذا مقطعا من أحد التقارير التفتيشية التي رفعها مفتش تربوي بنيابة شيشاوة إلى أستاذ بالتعليم الابتدائي، عقب زيارته زيارة مفاجئة، إلا أن السيد المفتش اصطدم بواقع مرير؛ وجد أستاذا شابا يافعا مفعما بالحيوية والنشاط، ملتزما بأداء واجبه المهني على أحسن وجه، راغبا في تجويد أدائه التدريسي..لكنه، وفي ظل إكراهات أخطبوطية، أمسى مردوده غارقا في دوامة التردي والعبث والعشوائية التي فرضتها عليه ظروف اشتغال أقل ما يمكن وصفها به هو التأزم المفجع، ظروف لم يتلق عنها أي تدريب أو أي درس وهو طالب يتكون بمركز التكوين الذي علمه شيئا واحدا؛ هو ارتداء ونزع الوزرة البيضاء!
جاء وصف السيد المفتش دقيقا وشجاعا، وهو يشتغل على المسافة الفاصلة بين تمثلاته كمؤطر وعوالم الممارس البيداغوجي، وقال الحقيقة في آخر المطاف. كان أيضا وصفه محيطا بكل الجوانب السيكولوجية والسوسيوثقافية والبيداغوديداكتيكية التي تلف الممارسة التربوية بذاك الفضاء القاتل (المنحوس)، مبرزا سوء الأحوال التي تمارس فيها مهنة التدريس، هذه المرة وقف عليها عن كثب، اكتشف أنها مختلفة تماما عن الحكايات التي كان يسمعها في آخر أوقات لقاء تربوي من أفواه الأساتذة، أو في جلسة حميمية بالمقهى، أو حين يصادفهم حاملين أكياسا بلاستيكية سوداء محكمة الإغلاق وهم يهمون بصعود أعلى طبقة في (الكاميو أولا البيكوب بحال البهايم ..). هذه الأحوال الصعبة أخذت تكبل إبداعية الأستاذ تكبيلا وتعصف بمردودية التحصيل الدراسي عصفا، وتفتك بالجودة التعليمية فتكا وتقبر أحلام الطفل/المتمدرس تقبيرا...
غني عن البيان أن هذه الوضعية اللاتربوية تكاد تكون عامة إذ صارت تستفحل بقوة، وتتنامى بوتيرة سريعة، خصوصا بالوسط القروي المهمش، حيث ما تزال مسألة « المآوى المرحلية « أو ظاهرة شبة الأقسام الدراسية تجثم بفضاضة على روح الممارسة التربوية. إننا لا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن معظم الأساتذة والأستاذات بالتعليم الابتدائي يعيشون بشكل سرمدي تفاصيل هذه المعاناة، تؤدي بهم إلى فقدان شهية العمل، والثقة بنبل أهداف المنظومة التربوية/التعليمية.
فلا غرابة إذن إن استفحلت ظاهرة الغياب المتكرر و(السليت) وعدم الاكتراث بالجديد في الحقل التربوي والتعليمي، لأن هذه الفئة من الأساتذة تعتبر نفسها غريبة في أسرة الشغيلة التعليمية، التي تشتغل في ظروف جيدة نوعا ما.
هذه الأزمة تطال الجنسين معا من المدرسين، فإحدى الأستاذات حاولت الهرب من براثن الجبال الشامخة، بضواحي إمنتانوت، حيث ابتسم لها الحظ وانتقلت في إطار الحركة الانتقالية المحلية من مجموعة مدرسية إلى أخرى أحسن جغرافيا، لكن الحظ كان عاثرا، إذ ستجد قاعة ليست كالقاعات الدراسية مجرد اسم لحجرة دراسية أو حجيرة دراسية –إن صح التعبير- اعتبرتها مأوى مرحليا من النوع الرديء، رغم أنه شكل أحد المرافق العتيقة بالمنطقة دام حوالي سبع سنوات دون أن يتحول إلى مدرسة حقيقية تلهب حماس الأطفال، الذين يمنون النفس للتعلم داخل حجرة دراسية بمواصفات حقيقية. المضحك في الأمر أن هذه الأستاذة المغلوبة على أمرها فارعة الطول، إذ تتمتع بطول في القامة في حين لا يتعدى سقف الحجيرة الدراسية التي تشتغل فيها المتر ونصف المتر عن الأرضية، فتضطر إلى قضاء معظم الوقت جالسة على كرسي خشبي متآكل، وإذا ما فكرت في الوقوف تجد صعوبة، حتى أصبح ظهرها مقوسا لا يستقيم إلا حين تأوي إلى فراش النوم..
إذا ما نظرنا إلى حال هذه الأستاذة فكيف لنا بالحديث عن البيداغوجيا الحديثة وتحقيق الكفايات وتخطيط ما يسمى بالجذاذات و...و... إنه ضرب من الخيال في ضوء فضاء تربوي رديء ومنسي في فيافي الجبال ! فلا يستغرب زائر ما إذا ما وجد ملاحظات غير مألوفة بالمذكرات اليومية لهؤلاء الأساتذة المقهورين من قبيل؛ لم تنجز حصص اليوم لأن السقف يقطر أمطارا، لأن الرياح عصفت باللوازم المدرسية، لأن...
إذن قبل أن توجه أصابع الاتهام، في نهاية كل موسم دراسي، إلى الأستاذ، من واجب القائمين على الشأن التعليمي التربوي أن يفكروا بجدية في الفضاء الذي تمارس فيه مهنة التدريس في سبيل تطوير الأداء التعليمي التعلمي، فضاء يليق بسمعة الأستاذ ومقامه الذي حفظه له التاريخ منذ عصور خلت.
جمال الحنصاليمنقول