كتبَ الله رمضانَ على عباده المؤمنين، ليس من أجْل الصيام والقيام والصدقة والدعاء فقط، وإنَّما شَرَعَه لحِكَمٍ كثيرة، ومنافع جسيمة؛ منها: تغيير أخلاقنا وسلوكنا بعد انقضاء رمضان، فدعونا نتأمَّل فيها.
إنَّ المتأمِّل في حِكَم الصيام يجدُ أنَّ الله شَرَعَه من أجْل الوصول إلى منازل التقوى، ومِن منازل التقوى أمورُ العقائد والعبادات والأخلاق (السلوك).
وأكثرُ الناس اليوم يركِّزون على العقائد والعبادات، لكنَّ الكثيرَ منهم لا يركِّزون على الأخلاق (السلوك)، مع أنَّ الناسَ لا ينتفعون بشكلٍ مباشر من العبادات، بينما يتأثَّرون بالأخلاق التي تؤثِّر فيهم تأثيرًا مباشرًا.
إنَّ الصيامَ بالشروط التي حدَّدها الله ورسوله يُمثِّل مدرسةً حقيقيَّة، ودورة تدريبيَّة لتعلُّم الأخلاق والسلوك.
تأمَّلوا في حديث النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال فيما صحَّ عنه: ((فإذا كان يوم صوم أحدِكم، فلا يرفثْ ولا يصخبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه، فليقُلْ: إنِّي امرُؤ صائم))؛ مُتفَق عليه.
هذه الفقرة من الحديث مُخصَّصة لتعليمنا الأخلاقَ والسلوك، وتدريبنا على تغيير أخلاقنا السيِّئة إلى الأخلاق الحسنة.
وعباد الله المتقون الصادقون يحرِصون على طاعة الله ورسولِه، فيحرصون على انقضاء اليوم من أيَّام الصيام دون رفَثٍ ولا صخَبٍ، ولا حتى الرد على مَن سبَّ أو شتمَ أو حتى إن هدَّدهم بالقتال.
سبحان الله، يمكن للإنسان أن يصبِّرَ نفسَه على ألاَّ يصخبَ، ولا يُؤذي الناس ولا يظلمهم، كلُّ هذا ممكنٌ مع أنه صعبٌ على أكثر الناس، وخاصَّة مَن أُشْرِب في قلبه البغي والظلم والعدوان.
أصعبُ مِن ذلك أن يُصبِّرَ الإنسان نفسَه عن الردِّ على مَن اعتدى عليه بالسبِّ والشَّتْم.
والأصعبُ من ذلك جدًّا جدًّا أن يصبرَ على مَن اعتدى عليه باليد بأيِّ نوعٍ مِن أنواع الأذى، فقليل من الناس مَن يحتملُ هذا النوع منَ الأذى، وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك واضحُ المعنى والدَّلالة.
إخواني الكرام: لا بدَّ أن نَصْدُقَ مع الله في أن نصومَ بشكلٍ صحيح، وهذا الصوم الصحيح يجبرنا على أن نعدِّلَ سلوكنا ولا بد، وإلاَّ لَم نؤدِّ صيامَنا كما يحبُّ اللهُ ورسوله.
تأمَّل لو أنَّك جاهدتَ نفسَك أثناء الصِّيام؛ فلا رفَث ولا صخب ولا أذًى للمسلمين، ومع ذلك تتحمَّل ما يصدرُ عنهم من أنواع الأذى؛ من الأقوال والأفعال، كلُّ ذلك صبرًا واحتسابًا؛ مصداقًا لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه))؛ مُتفق عليه.
فكلُّ ما ذكرتُ لكم آنفًا من الإيمان والاحتساب عند ذلك ينفع الصوم ويؤثِّر في السلوك، وإذا غابتْ هذه المعاني عن الصوم، فلا يؤثِّر فينا البتَّةَ، إلا تأثيرًا مؤقَّتًا يزول بعد انتهاء الصوم مباشرة.
سؤال: لماذا لا يؤثِّر الصوم في حياة المسلمين؟!
تأمَّلوا في رجل صامَ عن أكل الحرام؛ فلا رِشْوة ولا اختلاس؛ لأنَّ هذه الأمور حرامٌ، ولا يجوز ممارستُها في نهار رمضان وهو صائم، مع أنه يمارسُ ذلك بكل سهولة حينما يكون غيرَ صائمٍ، فلماذا حصلَ هذا؟!
وآخَر صام عن شُرْب الدُّخَان طول نهار رمضان، في الوقت الذي لا يستغني عنه خمسَ دقائق في غير رمضان، لماذا حصل هذا؟!
وآخَر لا يصبر عن مضْغ شجرة القات في غير رمضان، ومع ذلك يصبِّرُ نفسَه طيلة اليوم، لماذا؟!
وآخَر يعتبر أنَّ مِن قِلَّة الحياء مع الله سماعَ الأغاني في نهار رمضان، فإذا انقضى اليوم فلا مانع لدَيْه أن يعود إلى غَيِّه واستماع هذا البلاء، واللهُ المسْتعان.
وقُل غير ذلك من الأمثلة التي يعيشها الناس في حياتهم اليوميَّة، فلماذا يحصلُ كلُّ ما ذكرتُ لكم، وكيف يحصل؟!
إنَّ هذا يؤكِّد أنَّ المسلم إذا عزمَ على شيءٍ يستطيع إنفاذَه، ولا يحول بينه وبين ذلك شيءٌ مَهْمَا كانت الصعوبة، المطلوب منه فقط اتخاذُ القرار.
فهؤلاء اتَّخذوا قراراتٍ جُزْئيَّة ومؤقَّتة بانتهاء يوم الصيام؛ ولذلك تجدهم يعودون إلى ذلك بعد الإفطار مباشرة.
وهذه مشكلة لدى الكثير من المسلمين، وهي أنَّ قراراتهم جُزْئيَّة وليست شاملة، ومؤقَّتة وليست دائمة، ومن هنا لا ينتفعون بصومهم لهذا السبب.
المطلوب أن يتَّخِذَ المسلم قرارًا شاملاً بعمل كلِّ ما يُرضي الله وأمرَ به رسولُه، ويتخذ قرارًا دائمًا لا ينتهي إلا بانتهاء عمْره عن الحياة بالموت.
وتلك هي التوبة النَّصوح التي أمرَ الله بها نبيَّه والمؤمنين من بعده.
كيف نشأتْ هذه الحالة:
هذه الحالة هي نوع من الانفصام النكِد في الشخصيَّة لدى المسلمين، ومَظْهر من مظاهر عدم العمل بما يعلمون، خاصَّة في هذه العصور المتأخِّرة.
مطلوبٌ من المسلمين صِدْقُ الالتزام، وصِدْق الاعتقاد، ومعاملة الله بيقينٍ واحْتساب، واستشعار أنَّ الله علاَّمُ الغيوب، يعلمُ خائنة الأعْيُنِ وما تُخْفي الصدور، وأنَّه لا يَخْفى عليه من أمورنا شيءٌ.
فإذا استشعر المسلمون ذلك نفعتْهم عباداتهم، ونفعهم صومُهم، وغيَّرَ الله بذلك أحوالَهم.
كيف يؤثِّر رمضان في سلوكنا؟
إذا صَدَقْنا مع الله في صلاتنا وصيامنا وقراءة القرآن، وحافظنا على صيامنا من اللغو والرفَثِ، فإنَّ هذا سيؤثِّر ولا بدَّ على سلوكنا وأخلاقنا، وليس فقط على سائر عباداتنا.
إذا حافَظَ المسلمُ على صيام يومه من الوقوع فيما حذَّرَ الله ورسوله، وجاهَدَ نفسَه على الالتزام بمكارم الأخلاق، نفعَه صومُه في تغيير سلوكه وأثَّرَ ذلك فيه، فإنِ اسْتمرَّ طيلة الشهر، أحْدَثَ هذا تأثيرًا ظاهرًا في أخْلاقه.
وإذا أضافَ إلى ذلك صيامَ النوافل في غير رمضان، كبر هذا التأثير، واشتدَّ ظهورُه عليه، فإذا بَقِيَتْ فيه خصالٌ لم تُهَذَّبْ، جاءَه رمضان من العام المقْبِل فهذَّبَ ما بَقِي من السلوكيَّات الخاطئة، والشرط الأساسي في كل ذلك أن يصومَ إيمانًا واحتسابًا وتطبيقًا لأمرِ الله ورسوله.
خُطوات عمليَّة:
1- في رمضان نحن نصلِّي الصلوات الخمسَ في جماعة، فهل سنستمرُّ عليها في غير رمضان؟ إذا كنَّا صادقين مع الله، فالجواب: نعم سنستمرُّ - إنْ شاء الله.
2- في رمضان نحن نقوم الليل كلَّ ليلة من رمضان، فهل سيبقَى لنا حظٌّ من ذلك بعد رمضان؟ إذا كنَّا صادقين مع الله، فالجواب: نعم سنستمرُّ - إنْ شاء الله.
3- في رمضان نحن نحرِصُ على ألاَّ يُخْدَشَ صومُنا بأيِّ نوعٍ من أذى الناس في الأقوال والأفعال، فهل ستستمرُّ أخلاقُنا كذلك بعد رمضان؟ إذا كنَّا صادقين مع الله، فالجواب: نعم سنستمرُّ - إنْ شاء الله.
4- في رمضان نحن نتحمَّل أذى الناس إذا أغضبونا، ونكْثِر من قول: (اللهم إنِّي صائم)؛ حِرْصًا على أن يتقبَّلَ الله منَّا الصيامَ، فهل ستستمرُّ هذه الأخلاق بعد رمضان؟ إذا كنَّا صادقين مع الله، فالجواب: نعم سنستمرُّ - إنْ شاء الله.
5- في رمضان نحن نقرأُ القرآن، وأكثرُنا يختمُ القرآن أكثرَ مِن مرَّة في رمضان، والبعضُ مِنَّا يختمُ في رمضان خَتمة واحدة، فهل سنستمرُّ في تلاوة القرآن بعد رمضان؟ إذا كنَّا صادقين مع الله، فالجواب: نعم سنستمرُّ - إنْ شاء الله.
6- في رمضان يَكْثُرُ منَّا عملُ الخيرات واجتنابُ المنكرات؛ طمعًا في أن يكتبَ الله لنا الأجورَ الكبيرة، ويغفر لنا الذنوب الكثيرةَ، فهل سنستمرُّ على هذا السلوك بعد رمضان؟ إذا كنَّا صادقين مع الله، فالجواب: نعم سنستمرُّ - إنْ شاء الله.
وهكذا نستطيع من خلال الإخلاص والصدق مع الله، والجِد في طاعة الله ورسوله، أن نتغيَّرَ، فيتغيَّر سلوكُنا وأخلاقُنا.
وعلى ذلك، فإننا سنصبحُ أُناسًا مختلفين بعد رمضان، وبذلك يؤثِّر رمضان في سلوكِنا.
أمَّا إذا انعدمَ الإخلاصُ والصدق مع الله، أو ضَعف اليقين في نفوسنا، فلن يتغيَّرَ سلوكنا وأخلاقُنا؛ ولذلك نحن بحاجة إلى إعادة النظر في إيماننا بالله وقوَّة اتصالنا به، وطريقة العمل بأوامره ونواهيه، وإلاَّ فلنْ تتغيَّرَ أحوالُنا إلاَّ أنْ يشاءَ الله؛ لأن الله - تعالى -: (لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
الله الموفق
تحياتي لكم
شمس المنتدى