خي المهموم: بادئ ذي بدء، أن تدرك أن هذه الهموم والأحزان، والنكبات والآلام، تسمي (ابتلاءات)، يبتلي الله بها مَن يشاء من عباده في هذه الدنيا:
1- إما بسبب ما يقترفه العبد من الذنوب والمعاصي؛ ليستيقظ القلب من غفلته، ويرجع لله بطاعته.
2- وإما بسبب تمحيص من الله لعبده؛ لترفع الدرجات، وتكفر السيئات، وتُقال العثرات، لمَن صبر واحتسب الأجر والثواب من الله تعالي.
تصبر ففي اللأواء قد يحمد الصبرُ
|
|
| ولولا صروف الدهر لم يعرف الحر
|
وإن الذي أبلي هو العون فانتدب
|
|
| جميل الرضا يبقي لك الذكر والأجر
|
وثق بالذي أعطي ولا تك جازعًا
|
|
| فليس يجزم منك أن يردعك الضر
|
فلا نعم تبقي ولا نقم ولا
|
|
| يدوم كلا الحالين عسر ولا يسرُ
|
تقلب هذا الأمر ليس بدائم
|
|
| لديه مع الأيام حلو ولا مر
|
|
|
|
واعلم أخي أن هذه الدنيا دار ابتلاء،
بنوعيه الاثنين الآنفين، فكل عنده هموم وأحزان، فلا أحد يسلم منها البتة،
قال ابن الجوزي رحمه الله: الدنيا وضعت للبلاء: فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه
على الصبر، قال الله تعالي:
}وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{ [الأنفال: 17]، وقال الله تعالي:
}وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ...
{ [البقرة: 155]، لذلك هون عليك المصيبة.
فهذا مريض لا يتحرك إلا بالنظر فحسب، وذا فقد أباه أو أمه أو زوجه أو فلذة كبده ...!
وذاك فقد وظيفته، وذاك ... وذاك...
بل حتى أفضل البشر وهم أنبياء الله (عليهم الصلاة والسلام) ابتُلوا بمصائب عدة، قال الله تعالي:
}الم
* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا
يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{ [العنكبوت: 1- 3].
فهذا النبي الكريم – بأبي هو وأُمي –
يبتليه الله سبحانه وتعالي بابتلاءات عدة منها: ما رواه الشيخان عن عائشة
رضي الله عنها أنها قالت للنبي r: هل أتي عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ قال: «
لقد
لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن
عبد ياليل بن عبد كُلال، فلم يجبني إلي ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على
وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (السيل)، فرفعت رأسي، وإذا بسحابة
قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إن الله قد
سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت
فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم على ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول
قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت: إن
شئت لأطبقت عليهم الأخشبين (جبلان بمكة، أبو قبيس والذي يقابله)
، فقال النبي r:
لا، بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا»
[متفق عليه].
وذا يوسف عليه السلام، يُزَجُ به في غياهب
السجون بضع سنين، ظلمًا وزورًا وبُهتانًا، دون أي ذنب يقترفه؛ سوي ما
اتهمته به زوج العزيز بأن يوسف يراودها عن نفسها -وحاشاه ذلك- مع أنه في
حقيقة الأمر هي التي تراوده عن نفسه
}وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ
مَثْوَايَ{ [يوسف: 23].
مكث يوسف عليه السلام في السجن وهو مهمومًا منزعجًا من جراء ذلك، ولكنه تحلي بالصبر والتسليم لهذا الابتلاء الرباني.
وذاك نوح عليه السلام يقول لابنه وهو مبتلي به:
}يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ{ [هود: 42].
وذا الخليل إبراهيم عليه السلام يُبتلي بالنار، وهذا إسماعيل يُبتلي بالذبح.
وهذا أيوب عليه السلام يُبتلي بالمرض من بعد كثرة المال والولد.
والقصص أكثر من أن تُحْصَر في هذا المقام.
فيا أخي المبارك: أين أنت من التأسي بالأنبياء بصبرهم على ابتلاءاتهم الشديدة.
قضاء وقدر: ثم اعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
فما أصابك فهو من الله جل وعلا قضاًء وقدرًا،
}قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ{ [التوبة: 51].
قال الوليد ابن الصحابي الجليل عبادة بن
الصامت (رضي الله عنه): (دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت:
يا أبتاه أوصني، واجتهد لي.
فقال: أجلسوني، فلما أجلسه قال: يا بني،
إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله تبارك وتعالي حتى تؤمن
بالقدر خيره وشره.
قلت: يا أبتاه، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟
قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني، إني سمعت رسول الله r يقول: «
إن أول ما خلق الله تعالي القلم، ثم قال: اكتب، فجري بتلك الساعة بما هو كائن إلي يوم القيامة».
يا بني، إن مت ولست على ذلك دخلت النار).
[أخرجه الإمام أحمد والترمذي].
فلمَ الحزن، ولمَ الكآبة، ولمَ اليأس؟
ارض بما قسم الله لك تكن أسعد الناس، وقل الحمد لله على كل حال، وارفع شعار الاستسلام والصبر لأقدار الله المؤلمة.
إذا بُليت فثق بالله وارض به
|
|
| إن الذي يكشف البلوى هو الله
|
والله مالك غير الله من أحد
|
|
| فحسبك الله في كل لك الله
|
|
|
|
وطن نفسك على التعامل الصحيح للأقدار المؤلمة ولا تحمل نفسك ما لا تطيق.
فحزنك لا يغير شيئًا! وبكاءك لا يغير شيئًا! وكآبتك لا تغير شيئًا!
قال ابن القيم رحمه الله: فإذا غلب العبد،
وضاقت به الحيل، ولم يبق له بحال، فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح
كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء.
ولكن أخي المهموم، اهتف بكلمات، تدل على إيمانك بالقضاء والقدر خيره وشره «قدر الله وما شاء فعل».
إنها كلمات يربينا عليها نبينا وحبيبنا محمد صلوات الله وسلامة عليه عند الاصطدام بالنكبات ونحوها.
قال رسول الله r من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه): «
المؤمن
القوي خير وأحب إلي الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما
ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا
كان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»
[أخرجه مسلم].
قال الشافعي رحمه الله:
وما شئتَ كان وإن لم أشأ
|
|
| وما شئتُ إن لم تشأ لم يكنْ
|
خلقت العباد على ما علمت
|
|
| وفي العلم يجري الفتي والمسنْ
|
علي ذا مننت وهذا خذلت
|
|
| وهذا أعنت وذا لم تعنْ
|
فمنهم شقي ومنهم سعيد
|
|
| ومنهم قبيح ومنهم حسن
|
|
|
|
وصفات نبوية للمهموم: 1- عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم النبي r، فكنت أسمعة يُكْثر أن يقول: «
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال»
[أخرجاه في الصحيحين].
فهذه الوصفة الأولي، وهي التعوذ من الهموم والأحزان والغموم كما استعاذ منها النبي r في هذا الحديث.
2- عن ابن عباس، أن النبي r كان يقول عند الكرب: «
لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، رب الأرض رب العرش الكريم»
[أخرجاه].
كلمات تنزيه وثناء، لمن بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما، فنزه اللهَ عله يفرج عنك ما أنت فيه.
3- أكثر الاستغفار لله جل شأنه، عن ابن عباس أن رسول الله r قال: «
من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»
[أخرجه أبو داود وابن ماجه وصحح إسناده أحمد شاكر].
4- الدعاء: قال الله تعالي:
}قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ ...
{ [الإسراء: 110]، فعليك بالدعاء والالتجاء لله، فانطرح على عتبات بابه بالدعاء فهو المستجيب لمَن دعاه بصدق وإخلاص.
5- عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله r قال: «
ما
أصاب أحدًا قط هم، ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك،
ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به
نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم
الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛
إلا أذهب الله عز وجل همه، وأبدله مكان حُزنه فرحًا. قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال:
أجل، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن»
[رواه أحمد والبزار وأبو يعلي وغيرهم].
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله r قال: «
من قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، كان دواء من تسعٍة داء أيسرها الهم»
[رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم وقال الحاكم: صحيح الإسناد].
7- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «
دعوة
ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين، فإنه لم يدع رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له»
[رواه الترمذي والنسائي والحاكم].
8- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: «
ألا أعلمك الكلمات التي تكلم بها موسي عليه السلام حين تجاوز البحر ببني إسرائيل؟ فقلنا: بلي يا رسول الله، قال:
قولوا: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكي، وأنت المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» قال عبد الله: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله r.
[رواه الطبراني في الصغير بإسناد جيد].
9- عن أنس رضي الله عنه، أن النبي r كان إذا حزبه أمر قال: «
يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث»
[أخرجه الترمذي].
10- عن أبي بكرة، أن رسول الله r قال: «
دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلي نفسي طرفه عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت»
[أخرجه أبو داود في سننه].
11- عن أسماء بنت عميس قالت: قال رسول الله r: «
ألا أعلمك كلمات تقولينهن عند الكرب – أو في الكرب-: الله الله ربي لا أشرك به شيئًا»
[أخرجه أبو داود في سننه].
والوصفات أخي الكريم كثيرة جدًا لمُدْلَهمَّات الهموم والأحزان، لكنني أكتفي بذلك القدر كي لا أطيل عليك في الكلام.
* * * *
بشري للمهموم
البشري الأولي: هي بشري من الله في محكم التنزيل، قال تعالي:
}وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ
مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ{ [البقرة: 155 – 157].
يا صاحب الهم إن الهم منفرج
|
|
| أبشر بخير فإن الفارج الله
|
اليأس يقطع أحيانًا بصاحبه
|
|
| لا تيأسن فإن الكافي الله
|
الله يحدث بعد العسر ميسرة
|
|
| لا تجزعن فإن الصانع الله
|
|
|
|
البشري الثانية:قالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسول الله r يقول: «
ما
من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم
أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله تعالي في مصيبته،
وأخلف له خيرًا منها» قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله r، فأخلف الله لي خيرًا منه، رسول الله r.
[أخرجه مسلم].
البشري الثالثة: عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي r قال: «
ما يصيب المؤمن من نصب، ولا وصب، ولا هَم، ولا حزن، ولا أذي، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»
[متفق عليه].
البشري الرابعة:وهي لمن أثقلت الديون عواتقهم وما أكثرهم في هذا الزمان:
عن على رضي الله عنه، أن مكاتبًا جاءه فقال: إني عجزت عن كتابتي فأعني، فقال: ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله r، لو كان عليك مثل جبل أُحد دينًا إلا أداه الله عنك، قل: «
اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك»
[أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن].
فهذه – أخي المهموم – مبشرات عظيمة،
وحوافز جميلة، تدفعك للثبات والاحتساب على ما أنت عليه في مُصابك، بطريقة
صحيحة، ليرضي عنك مولاك وخالقك الله جل علاه، ولتظفر بهذه المبشرات
العظيمة، التي نَطَقَ بها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
والله أسأل أن يفرج هم المهمومين وكرب المكروبين، وأن يقضي الدين عن المدينين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
تحياتي لكم
شمس المنتدى