كلما تمرد قلم حر على خط أحمر، انبرى قلم أصفر ليدثره بسواد التخوين، ويخربش رصيده الرمزي بألوان متنافرة من الاتهامات الجاهزة ..وكأن الصحفي لا تكتمل وطنيته إلا إذا كتب بقلم وردي ، ولون ورقته بالياسمين، وافتتح مقالاته بقصيدة مديح ، وختمها بلازمة النصر.. ولا بأس إن ضاعت الحقيقة بين بياضات السطور..
اقتراف فعل الكتابة بتخطي الخطوط الحمراء والحواجز الشائكة، مغامرة صعبة ومخيفة للصحفي وللفاعل السياسي وحتى للقارئ.. الصحفي يِؤجل القفز على الحواجز حتى يبدأ الآخرون المتهورون وتمر عاقبتهم سليمة بلا كسر للرزق وبلا ارتجاج في السمعة أو شلل مهني.. والفاعل السياسي لا يزال يتمرن على لعبة الديموقرطية ويرفض التطبيع مع أسمى قواعدها وهي حرية التعبير .. والقارئ يمنعك من تجاوزالحدود الموشومة في لاوعيه ، لأنه يخشى الصدمة وتغيير النغمة والتشويش على ثوابته الملقحة في شرايينه مند أول درس في التاريخ ،والمتجدد لقاحها مع كل نشرة رسمية .والأشد مضاضة على الكاتب الصحفي ، ليس هو سيف القارئ ولا سكين الفاعل السياسي حين تشوش على ثوابت الأول ومصالح الثاني ..الأشد مضاضة هو ظلم ذوي القربى وسيف الزملاء، حين ينغرس في ظهرك بكتابات صفراء تنهل من قاموس السب والقذف وترتوي من الملفات الجاهزة التي تصل المكاتب بالمجان موثقة بالمعلومات السرية التي تلتقطها أجهزة الرصد والتي تحسب عدد ركعاتك وكؤوسك وخطاياك.. وكأن الصحفي عليه أن يكون نبيا أو قديسا قبل أن يفكر في احتراف مهنة البحث عن المتاعب ..
فإذا كتبت عن فشل سياسة العصا والجزرة في تدبير ملف الصحراء ، فأنت عميل وخائن ومسخر من العدو.. وإذا تساءلت ببراءة عن لاجدوى هذه الإنتظارية وعبثية المشهد السياسي، فأنت مثير للفتنة وتهدد استقرار البلاد ، و إذا تغزلت في الكرامة وهجوت طقوس العبودية ، فأنت وقح ولا تحترم أسيادك وربما مصاب بخلل عقلي من كثرة إدمانك أفيون الحرية.. وإذا انتقدت تراجع الحكومة عن الإصلاحات الموعودة ، فأنت ناطق باسم الأشباح، وإذا كتبت عن ضعف المعارضة فانت متملق للحكومة، وإذا تأسفت على موت قيم اليسار، فأنت متطرف وظلامي.. نتجاهل الأفكار والقضايا والمضامين التي تعبر عنها الكتابات، وننخرط في جلد الكاتب.. وبدل أن نفتح حوارا فكريا رزينا في إطار احترام التعددية والإختلاف وحرية التعبير ، نفتعل معارك مجانية وقذرة تذبح فيها أخلاقيات المهنة وقيم الحرية ..
اختفى الرقيب التقليدي الذي يغلق مقرات الصحف بالشمع الأحمر ويمنع التوزيع ويسجن الصحفي خارج القانون ويصنع منه بطلا .. الرقباء هم نحن، نقوم بالدور وزيادة، بطلب أو بدون، أقلامنا تتكلف طواعية لتقوم بدور الشرطي والنائب العام والقاضي .. نحن من يختلق التهم، ويلقي القبض، ويصدر الحكم بالإعدام شنقا بالفضيحة أو ضربا برصاص التشهير أو حرقا بنيران التدمير الرمزي..أقلامنا مهيأة لمطاردة الأقلام المزعجة ، مجهزة بكل انواع الأسلحة للجلد والرجم والتجريح في الأعراض والشرف ، أقلامنا جنود مجندة خلف الرقيب الشبح لحماية بلد الاستثناء من خطر أقلام حرة اختارت الانحياز للحق والحقيقة والمهنية ..
فالصحفي المرغوب فيه من السلطة ، هو من يرقص على إيقاعها، و يعزف على وتر الإجماع ،ويطبل على الدف في جوق المادحين ..أما الآخرون المغضوب عليهم فمجرد شرذمة من الضالين والمنحرفين والعملاء والمتآمرين على الوطن ..
فاطمة الإفريقي