osama منصوري نشيط
الجنس : عدد الرسائل : 20 العمر : 35 تاريخ التسجيل : 27/11/2008 نقاط : 0
| موضوع: طائر النافذة المغلقة الأربعاء ديسمبر 10, 2008 12:13 pm | |
| قطرات مطر تنساب على زجاجِ النافذةِ المغلقةِ بوجهِ الريحِ، تنسابُ تلكَ القطراتُ على الحوافِّ بتمهلٍّ كأنها عالقةٌ بينَ الريحِ وبردِ الصباح، ثمةَّ طائرٌ يرفُّ بجناحيهِ الملونينِ بالبياضِ على النافذةِ، نفضَ ريشهُ المبللِّ مراتٍ عدة قبلَ أن يفتحَ عينيهِ مندهشاً، كانَ زائراً صباحياً غيرَ متوقعٍ، ينصتُ الطائرُ كأنهُ سمعَ صدىً يشبهُ النحيبَ..
يا إلهي رجلٌ وحيدٌ ينتحبْ!
ضرب الطائرُ بمنقارهِ مراتِ عدة على الزجاجِ، لعلّهُ يلفتُ انتباهَ الرجلِ، لكنَّ الرجل المحزونَ لمْ يرفعْ رأسهُ باتجاهِ النافذةِ مطلقاً، ظلَّ مطأطِئَ الرأسِ.
يتحدثَّ الرجلُ معَ نفسهِ: لا شيءَ يجعلُ الإنسانَ يغامرُ برفعِ رأسهِ.
دارَ الطائرُ الأبيضُ بعينيهِ باتجاهاتِ المدى، ثمَّ ثبتَ نظراتهِ باتجاهِ البيتِ، كانَ الرجلُ يجلسُ قبالةَ التلفازِ، عيناهُ حائرتانِ وهو يرقبُ الصّورَ التلّفازيةَ تتسارعُ على الشاشةِ الصغيرةِ، حاولَ أن يمدَ ساقيهِ، أن ينهضَ لم يستطع، تمتمَ بكلماتٍ لا تليقُ بهِ.. اللعنةُ، قاماتنا أصبحتْ تخوننا.. بل نحن نخون قيامة الزمن. ظلَ في الكرسيِّ يتململُ يمنةً ويسرةً، والصورُ تتسارعُ كأنها تستفزُّ رجولتهُ، نساءٌ ممزقاتُ الثيابِ يستبيحُ الدمعُ نضارةَ خدودهنَّ النديةِ، يلتففنَ بالسوادِ والوجعِ، أطفالٌ يتراكضونَ بأقدامٍ حافيةٍ في الشوارعِ القذرةِ، يهربونَ من الموت، من الرصاصِ " الذكي " ماذا تقول يا رجل.. رصاص ذكي زمن العجائب.. والجنودُ ذوو الخوذاتِ الصحراويةِ والملامحِ الغربيةِ النافرةِ، سيلٌ منَ الشتائمِ أطلقها الرجلُ على هؤلاءِ الغرباءُ، الذينَ تسمحُ لهم عُنجهيتْهم بتقييدِ رجالٍ لونتْ الهزيمةُ وجوهَهمْ بالسواد.. وارتسمَ الذل كالوشمِ على قاماتِهمْ المنحنيةِ.
بدا للطائرِ أنَّ الرجلَ فقدَ رجولته، بعدَ أنْ استهلكْتهَا تلكَ الصورُ المتسارعةُ على الشاشةِ، ووجهُ المذيعِ الملمع بالأناقة واللكنةِ الغربيةِ وهو ينقلُ الأخبارَ ويعلقُّ على تلكَ الصورِ بدمٍ باردٍ " حيادياً " كما يدعي، تساءل ما السرُّ في أنْ تتحولَ الدنيا إلى شاهدِ زورٍ وهي ترقبُ موتَنا البطيء؟!
توقفَ المذيعُ عن تحليلِ الأخبارِ.
وقالَ: الآن أعرضُ عليكم بعضَ الفرحِ، كانتْ الصورُ عبارةً عن أجسادٍ بشريةٍ بملامحَ لا تشبهُ الصحراء، تحرقُ جمال المدن، وتخربُ كل شيءٍ يمتدُّ إلى الجذورِ والتاريخِ والحضاراتِ الفراتيةْ. صاحَ الرجلُ يا للنخيلِ ويا لمواويلِ النخيلِ ماءُ دجلةَ صارَ بلونِ الحبرْ، انفلتتْ الأزمنةُ، الأرصفةُ مسكونةٌ بالريحِ والرملِ واللصوص، كانتْ الأرصفةُ تبكي وضفافُ الأنهارِ تشتعلُ بالنفط، والوجوهُ حائرةٌ والنساءُ كأنهنَّ أتين من أقبيةِ الثقفيِّ، يحملنَ رائحةَ الموتِ والدمارِ والعويلْ صوت أبي ذر من خلف رمالِ الربذةِ " انتبهوا يديكم على جمر الحجاج أو سيف أبي لهب.. تبت يدَا أبي لهب " ثمةَ نواحٌ معجونٌ بالمآسي يمزقُّ صمتَ الأمكنةِ. وحدها الريحُ وهذا الصوتُ يدقان أبوابَ الليل. عجبتُ لمنْ يجوعُ ولا يحملُ سيفاً " رددَّ الرجلُ بلهفةٍ، السيوفُ صَدِئَتْ في غمدها يا سيدي، تاَهتْ دروُبنَا عنِ المناراتِ، كأنَنا نعيشُ في حلقاتٍ مفرغةٍ، احتارتْ بنا المفارق، وتوزعتَنا المنافي والمدنُ وسفن تنقلُ موتنا بِلا جوازاتِ سفر، لم تعدْ الأشجارُ تموتُ واقفةً " حاولَ الرجلُ النهوضَ ثانيةً، لكنُه لمْ يستطعْ، الصورُ تتسارعُ على الشاشةِ، يبتسمُ المذيعُ الأنيقُ " والحيادي " والرجلُ يتململُ في كرسيهِ استغربَ الطائر.
كانَ الرجلُ لا يتحرك لكنه بدأ يرتعشُ ويهذي، كأنَّ الحمىَّ سكنتْ جسدهُ، تخيلَّ أنَّ الرمال دَفَعتْ برجل يلفه البياض يحمل كتابه بيمينه، قلةٌ أولئكَ الذينَ يحملونَ كتابَهُمْ بيمينهم. يصرخُ بالتاريخ والناس.. والشوارعِ التي تصفرُ فيها الريحُ ويتكومُ على أرصفتِها الرملُ. كانتْ الحاجةُ إلى لقمةِ العيشِ أقوى من صوتِ هذا الطالع من رحمِ الصحراءِ الملتفِّ بالبياضِ ومن يمينه. أخذتْ قامةُ الرجل الخارجةِ من رملِ الصحراءِ، تغوصُ في الماضي.. والرجل الجالس أمام التلفاز يغوصُ في كرسيهِ في زمنه. يلتفتُ حولَ نفسهِ كأنهُ يبحثُ عن شيءٍ، حدقَّ الطائرُ إلى الرجلِ وهوَ يحاولُ النهوضَ من جديد، خانتهُ قِواهُ مرةً أخرىَ، شعرَ الرجلُ أنَّ أحداً ما دفعهُ إلى موقدةٍ من جمرٍ وحرائق. في البيتِ الكبيرِ لا حركةَ، لا صوت لنحيبه.. و صدى المكانِ يردد صراخه. لقدْ غادرَ الجميعُ كل إلى جهتهِ أخذتهم الجهات إليها. تخيلَّ الطائر وعيناهُ مغروزتانِ بالصور وابتسامةُ المذيعِ الأنيقِ والحيادي، إنِّ الرجلَ مشلولٌ ووحيدٌ، فراحَ ينقرُ على الزجاجِ بشدةٍ، لا أحدَ يفتح. لم ينتبه الرجلُ لوجودِ الطائرِ على النافذةِ، هو لا ينظرُ إلى الأعلى، كانَ دائم النظرِ إلى قدميهِ. يخافُ الأماكنَ المرتفعةَ، تشعرهُ بالغثيانِ، تفكيرهُ توقف عن هذا المذيع الحيادي، وهو يلملمُ كلَّ صورِ القهرَ بالدنيا ويرميها بوجههِ رفَّ الطائرُ بجناحيهُ ودارَ حولَ البيتِ مراتٍ ومراتٍ باحثاً عن المدخلْ، وحينَ لم يجدْ، عادَ إلى النافذةِ من جديدٍ يرقبُ الرجل، مدَّ الرجل يديهِ محاولاً أن يتناولَ شيئاً ثقيلاً ليضربَ به وقاحةَ هذا المذيعِ الأنيقِْ، بينما المذيعُ يتبادلُ الضحكاتِ مع محللٍ ذي لحيةٍ ملونةِ وعينينِ ملونتينِ، ينقلُ بينَ أصابعهِ قلماً ملوناً، يسخرُ منَ الصورِ التي يمررَها المذيعُ على الشاشةِ بينَ الحينِ والحين.
ظنَ الرجلُ أنه يسخرُ من عجزهِْ.
الرجلُ: ضحكوا علينا دهراً وهم يقولونَ التاريخُ يعيدُ نفسهُ، يا للتواريخَ التي تعادُ على عقولنا، أين تاريخنا أين حضارتُنا؟ أين سيوفُنا، قوافُلنا؟ تذكرَ أنهُ قرأَ يوماً هذهِ المواويل على ورقةٍ مشلوحةٍ فوق طاولته: واكتبْ عالجفوفِ... اسمك.... هوية وصيت.
تندلّه البشرْ..... يا شعبي إشكثر عانيت وانطيت؟
وخبرتك..... تنعجن بالهم والأوجاع.
يكطعوني عليك أوصل.... وأبوس الكاع؟!!. "
يصرخُ الرجلُ، أينَ، تخرجُ منهُ ألفُ أينَ مزروعة كالشوكِ في حلوقِنا مفروشةً على صدِورنا. بعد قليلٍ شاهدَ الطائرُ أنَّ الرجلَّ تناولَ مزهريةً ورودها يابسة، وقد تُركتْ فيها بِلا اهتمام.
الطائرُ: ربما منذُ زمنٍ مركونةٍ على الطاولةٍ، هي مثل هذا الرجل لا تلقى العناية، تخيلَّ حالتَها وحالةَ الرجلِ، مركونانِ في غرفةٍ بِلا أنيسْ. بكلِّ قوةٍ قذفَ بها الرجلُ وجهَ المذيعِ " الحيادي " سمعَ الطائرُ صوتَ انفجارِ التلفازْ، لكنَ المذيعَ الأنيقِ والحيادي ظلَ ينقلُ الأخبارَ عن الريحِ والنخيلِ المخضبِ بالدمْ، ومشاهدَ الفرحِ في الشوارعِ.
رفَّ الطائرُ بجناحِيه، وراحَ يضربُ الزجاجَ محاولاً تحطيمُه.
الطائرُ: إذا لم يجد الرجلُ من يحكي معه، ويخرجُهُ من معاناتهِ سيصابُ بالجنونِ. تحرك الرجل.. دُهشَ الطائرُ يا ألله، الرجل ينهض يا ألله.. ووقفَ على قدميهِ، صفقَّ الطائرُ بجناحيهِ " فرحاً " الرجل يحاولُ أن يمشي، فجأةً ارتعشَ جسدهُ الضخَم صارَ يرتجفُ كأنَّ الحُمَّى استولتْ عليهِ من جديدٍ، صرخَ، لا أحد يسمعُ صوته، ترنّحَ، تمايلَ، وهوى بجسدهِ على الأرضِ بِلا حركةٍ.
دُهشَ الطائرُ، تحولَ فَرحهُ إلى حزنٍ ضاقَ عليهِ، رفرفَ الطائرُ بجناحيهِ وضربَ بهما النافذةَ حتى صارا يقطرانِ دماً، انتفضَ وارتعشَ الطائرُ مراتٍ عدةٍ في الهواءِ ثمَّ هوى على الأرضِ جثةً هامدةً.
دمشق: 9/ 3 / 2004
هامش:
" المواويل - للشاعر العراقي: عريان السيد خلف. |
|
AYA&COOL مشرفة الساحة الأدبية
الجنس : عدد الرسائل : 1037 العمر : 31 العمل/الترفيه : student المدينة : cairo-egypt البلد : الهواية : المزاج : تاريخ التسجيل : 27/12/2010 نقاط : 1225
| موضوع: رد: طائر النافذة المغلقة السبت يناير 08, 2011 3:10 am | |
| شكرا لكم على القصة الروعة يسلموااااااااااااااااااا |
|