الموضع الأول :
[يقولون : ( طبعًا ) . وهاتي الكلمةُ يلوكها في لسانه كلُّ أحدٍ ، جاهلٍ ، أو مؤتزرٍ بإزارِ العلمِ . وهي كلمة دخيلة في العربية ، أحسَِبها وردت علينا من تَرْجَمة الكتبِ الأجنبيةِ مع بِداءةِ عصر النهضة أو السقطةِ . وللحديثِ عما جرته علينا الترجمةُ من مصائبَ مقامٌ طويلٌ . وربتما أراد بعضُ المترجمين أن يترجم الكلمة الإنجليزيةَ ( of course ) ، فلم يعرف لها في العربية مرادفًا ؛ فترجمها لفسادِ الطبعِ ( بالطبع أو طبعًا ) . وهي حشوٌ من القولِ ، وعِيّ في الكلامِ ، لا ينبغي أن يلفظها من في قلبِه ذرةٌ من أنفةٍ ، أو قليلٌ من فقهٍ (2) . وإني أرى لها في العربيةِ بدَلاً هو ( لا جرم ) و ( حقًّا ) و ( أجَلْ ) و ( نعَم ) و ( لا ريب ) و ( لا شك ) ونحوُها . فإنْ قيلَ : إنَّ ( طبعًا ) تستعملُ في مواضعَ أُخَرَ غيرَ حشوٍ ، كقولِك : ( طبعًا ) في جوابِ من سألكَ : ( هل العرب كرماء ؟ ) . قلتُ : إن ظاهرَ المعنى يقضي بإعرابِ " طبعًا " في هذا السياقِ مفعولاً مطلَقًا مؤكّدًا للجملةِ قبلَه ؛ نحو : ( هذا صاحبي صدقًا ) . وهذا في رأيي غيرُ سائغٍ ، لأن " الطبعَ " في نحوِ جوابِ ( هل العربُ كرماءُ ؟ ) تقديرُه ( طُبعَ هذا الكلامُ طبعًا ) بالبناءِ للمجهولِ ، لا ( طَبعَ ) بالبناءِ للمعلوم . وهذا مخالِفٌ لنحو : ( هذا صاحبي صدقًا ) ؛ إذْ تقديرُه : ( صدقَ هذا الكلامُ صِدقًا ) بالبناءِ للمعلومِ . فإنِ احتججتَ بالسماعِ على ذلكَ ، قلنا : لا نعرفُ في ذلك سماعًا ؛ فإن يكنْ فهو قليلٌ . وإن احتججتَ بعلةِ عدمِ الفرقِ ؛ وذلك أن تزعمَ أن العلةَ المجيزةَ لقياسِ المبنيّ للمعلومِ ينبغي أن تجيزَ القياسَ في المبنيّ للمجهولِ ، وإن لم يوجدْ سماعٌ ؛ إذْ لا فرقَ بينَهما ، كما أجازَ ابنُ السرّاجِ القياسَ على إلغاءِ " ما " المتصلةِ بـ " إنّ " وأخواتِها حملاً لها على إلغاءِ " ليتَ " إذا اتصلت بها ، كما روى سيبويهِ بيتَ النابغةِ :
قالت : ألا ليتما هذا الحمامَ لنا *** إلى حمامتِنا ، أو نصفَه ، فقدِ
وإنما أجازَ ذلك من طريقِ ادّعاءِ عدمِ الفرقِ .
قلنا : كلا ؛ فإن بينَ المبني للمعلومِ ، والمبني للمجهولِ فرقًا ؛ وذلكَ أنّ إجراءَ أحدِهما مُجرى الآخرِ مدعاةٌ إلى اللبسِ . والعربُ يعتدّونَ كثيرًا بهذه العلةِ ، ويَبنونَ قوانينَهم عليها ، كما فعلوا في الإعرابِ ، وفي الزياداتِ التصريفيةِ الدالّةِ على معنًى ، وفي غيرِ ذلكَ . وربّما لم يعتدّوا بها ، كما فعلوا في " مختار " اسمَ فاعلٍ ، واسمَ مفعولٍ . فإنْ بلغنا عنهم سماعٌ ، لم يكن لنا أن نجاوزَه إلى غيرِه ؛ قالَ الإمامُ سيبويهِ رحمه الله تعالى : ( فاستعملْ من هذا ما استعملتْه العربُ ، وأجزْ ما أجازوا ) (3) . ولذلك أنكروا على ابنِ مالكٍ أنّه فرقَ بين ( بِعت ) مبنيًّا للفاعلِ ، والمفعولِ ، معَ أنَّه كما نقلَ المازنيُّ لغةٌ لبعضِ العربِ فقطْ . وعلى كلِّ حالٍ فما تقدَّم يكشِفُ لنا التفاتَ العربِ إلى هذه العلةِ ، واعتدادَهم بها كثيرًا . وإذا كانَ اللبسُ ثابتًا في أصلِ المسألةِ التي نحنُ بسبيلِها كانَ هذا موجِبًا للفرقِ ؛ وإذا ثبتَ الفرقُ امتنعَ القياسُ . فإن قالَ قائلٌ : ما لكَ حملتَ المسألةَ على مذهبِ العربِ في اجتنابِ اللبسِ ، ولم تحملها على مذهبِهم الآخرِ في عدمِ الاعتدادِ بهِ ، كما في " مختار " ؟ قلتُ : لأنَّ الاحتجاجَ بـ " عدمِ الفرقِ " احتجاجٌ ظنّيّ ؛ فأدنى احتمالٍ ينقضُه ، كالاحتجاجِ باستصحابِ الأصلِ ؛ وقد وُجدَ احتمالُ مراعاةِ اللبسِ . ثمَّ إنّا وجدنا العربَ يعتدّونَ بها في نحوٍ من مسألتِنا ؛ وذلك في مسألتينِ يجمعُها ومسألتَنا أصلٌ واحدٌ ؛ هو الفرقُ بينَ المبنيّ للفاعلِ ، والمبنيِّ للمفعولِ ؛ فالمسألةُ الأولى في أفعلِ التعجبِ ، والثانيةُ في اسمِ التفضيلِ ؛ فإنهم منعوا بناءَهما من المبنيِّ للمفعولِ ، لئلا يلتبسا بالمبنيّ للفاعلِ ؛ فلا تقولُ مثلاً : محمدٌ أضربُ من زيدٍ . تريدُ أنه يُضرَبُ أكثرَ من زيدٍ . وبذلك يتبيّنُ أنّ بينَهما فرقًا ؛ فلم يبقَ لهم إلا السّماعُ ؛ ولا سَماعَ يسوّغُ القياسَ .
وإنْ أريدَ بـ " طبعًا " في مثالِ هذه المسألةِ أنهم كرماءُ عن طبعٍ ، لا عن تصنّعٍ ، فهذا أصلاً ليسَ موضعَ خلافٍ ؛ إذْ يكونُ حينئذٍ تمييزًا . معَ أنه ينبغي العلمُ أني لا أنفي " طبعًا " من العربيةِ ؛ ولكني أنفي استعمالَها حيثُ لا يسنِدها القياسُ .
* الموضع الثاني :
يقولون : نحن كمسلمين نخافُ الله . وهذا التعبير المرذول المحرِّف للمعنى عن موضعه من تبِعات الترجمة الرديئة . وأنا أحسبها مترجمة حرفيًّا من الكلمةِ الإنجليزيةِ ( as ) ؛ فإنها تستعمل بمعنى الكاف ، ويضعونها موضع الاختصاص في العربية . وذِهِْ مما عمت وطمت حتى لا ترى لسانًا إلا يتشدق بها ، وبئسَ من لسانٍ يتبعُ كل ما يسمعُ ، ويجعل لغته حلالاً لكل مفسدٍ !
وفي لغتنا بديل عن هذا التعبير ، أُفردَ له في النحو بابٌ مستقلٌّ هو بابُ ( الاختصاصِ ) تقولُ ـ مثلاً ـ : نحنُ المسلمين نخافُ الله . نُصب ( المسلمين ) بفعل مضمر وجوبًا تقديره أعني أو نحوُه . أو تقول : نحن أيها المسلمون نخاف الله . ومما ورد في ذلك قول الشاعر :
جُد بعفوٍ فإنني أيها العبـ *** ـدُ إلى العفو يا إلهي فقيرُ
وقول الآخر :
إنا بني نهشلٍ لا ندّعي لأبٍ *** عنه ولا هو بالآباءِ يشرينا
وأنبه على أن هذا التعبيرَ الفاسدَ قد أجازه مجمع اللغة العربية في القاهرة بحجج واهيةٍ داحضةٍ لا يُلتفتُ إليها . وهذا شأن المجمع في كل ما يفشو على ألسنةِ الناسِ ؛ إذ يتكلفونَ له التأويلَ تكلفًا ظاهرًا ! فإن قيلَ : وما تُنكرُ أن يكونَ هذا من قبيلِ التطوُّرِ الدَِّلاليِّ ؟ قلتُ : من الخطأ أن تقاسَ العربيةُ على سائرِ اللُّغاتِ ، وأن تكونَ تابعةً لها ؛ فإنَّ اللغاتِ الأخرَ ليسَ لها مُحتَكمٌ ، ولا مرجِعٌ ثابتٌ ؛ فهي تتطوّرُ كلَّ يومٍ من غيرِ أن يعُدّوا هذا التطوُّرَ لحنًا ، أو خروجًا عن الجادّةِ . أما العربيةُ فشأنُها شأنٌ آخرُ ؛ إذ خصَّها الله تعالى بحفظِهِ ، وهيّأ لها البقاءَ ؛ فأصحابُ هذا العصرِ يقرءونَ كلامَ الله تعالى المنزلَ قبلَ أربعةَ عشرَ قرنًا ؛ فيفهمونَ كثيرًا منه ، والإنجليزُ مثلاً يقرءونَ كلامَ شكسبيرَ ؛ فلا يفهمونَه ، على قربِ عَهدِه منهم . والقولُ في التطوّرِ الدّلاليِّ أنه على ثلاثة أضربٍ ؛ الضرب الأول : تطور في زمن الاحتجاج ، سواءٌ كان بملابسة أم بغيرها . فهذا يُعتدّ به ، كتطور كلمة ( بأس ) ؛ فقد كان يراد بها الحرب ، ثم كثرت حتى قيل : لا بأس عليك ؛ أي : لا خوف . الثاني : تطور في غير زمن الاحتجاج . وهذا لا يصحّ إلا بملابسة ، إما مشابهة ، أو غير مشابهة ؛ نحوُ تسمية صاحب العلم بـ ( الشيخ ) ؛ فإن هذا من باب الاستعارة ؛ إذ شُبه العالم بكبير السن بجامع لزوم الاحترام والتوقير في كلٍّ . ثم إن هذا الضرب من التطور إما أن يظل مجازًا ، كـ ( البدر ) بمعنى ( الحسنِ الجميلِ ) ، وإما أن يكون حقيقةً عرفيةً إذا اشتهر ، وأصبح هو السابقَ إلى الذهن عند إطلاقه لدى الناس ، كـ ( الشيخ ) بمعنى العالم . الضرب الثالث : تطور في غير زمن الاحتجاج بغير ملابسة . فهذا يُطّرح ، ولا يُعتد به ، وهو خطأ في اللغة وضلال عن القصد فيها . وهذا بيّن معلوم عند علماء العربية جميعًا ؛ ولهذا ألفت الكتب في التنبيه على ما يلحن فيه العامة والخاصة ؛ من ذلك كتاب ( إصلاح المنطق ) لابن السكيت ، و ( الفصيح ) لثعلب ، و ( ما تلحن فيه العوام ) للكسائي ، و ( فقه اللغة ) للثعالبي ، و ( درة الغواص في أوهام الخواص ) للحريري ، و ( تقويم اللسان ) لابن الجوزي ، و ( تثقيف اللسان ) لابن مكي الصقليّ ، و ( لحن العوام ) للزبيدي . فإن قيلَ : إنَّ منعَ التوسع في التطوّرِ الدلاليّ يجعلُ اللغةَ ميّتةً هامدةً . قلتُ : ليس هذا بحقٍّ ؛ فإنَّ ثَمَّ مسالك كثيرة من الاشتقاق ، والتصريف ، والقياس . بلِ الذي يسيءُ إلى العربيةِ ، ويُسرِع في القضاءِ عليها أن يُفتحَ بابُ التطوّر على مصراعيهِ ؛ فيصيبَها ما أصابَ اللغاتِ مِن قَبلِها .
* الموضع الثالث :
يقولون : في هذه الفترة . أو بعد فترة ؛ أي : مدة . وهو خطأ ؛ فإن الفترة في اللغة هي الضعفُ والسكون وانكسارُ الحدة والنشاطِ ؛ ولهذا يطلق على ما بين النبيَّين ، كما قال ـ تعالى ـ : يا أهل الكتابِ قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل [ المائدة : 19 ] .
والبديل من ذلك هو ( مدة ) و ( زمن ) و ( حقبة ) ونحوُها . أما تصريفُ ( الفَترةِ ) ، فإنها تحتملُ أن تكونَ اسمَ مرة ؛ نحو ضرْبة ، أو مصدرً عامًّا ؛ نحو رَحْمة - وهو الأرجح - ، من ( فَتَرَ ) الذي مضارعه من باب " ضرب " ، و " نصر " ، بمعنى سكن وضعُف ، وانكسرت حِدَّته ونشاطه . * الموضع الرابع :
يخطئون من يقولُ من العامة ( تَفْتَر ) في ( دَِفتر ) وهو صواب ؛ فـ ( التفتر ) لغة بني أسدٍ ، حكاها الفراءُ ، واللحيانيّ (4) .
* الموضع الخامس :
يقفونَ على التنوين ؛ فيقولون ـ مثلاً ـ هذا كتابُن ، أو قرأت كتابَن ، أو اطلعت على كتابِن . وهو غلط ؛ فإن العربَ لا تقف على التنوين البتةَ إلا تنوينَ الترنم ، والتنوينَ الغالي ، كما ذكر أبو سعيد السيرافيُّ وابن جنيْ وغيرُهما ، وقال ابن مالك في ألفيته :
تنوينًا اثْرَ فتحٍ اجعلْ ألفا *** وقفًا وتلوَ غيرِ فتحٍ احذفا (5)
- الهوامش :
(1) : الأصمعيات 27 ( شاكر وهارون ) . وتمامُ البيتِ :
فلئنْ صرمتِ الحبلَ يا بنةَ مالكٍ *** والرأيُ فيهِ مخطئ ومصيبُ
(2) : انظر : البيان والتبيين 1 / 113 ( هارون ) .
(3) : الكتاب 1 / 414 ( هارون ) .
(4) : لسان العرب ، وتاج العروس ( تفتر ) .
(5) انظر مثلاً : ضرورة الشعر ، للسيرافيِّ 37 ( رمضان عبد التواب ) ، وسرّ صناعة الإعراب ، لابن جني 2 / 518 ( حسن هنداوي
[/b]