تحديد للنسل أم تحديد للعقل
كتبه/ أحمد خميس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام:151).
الابتعاد عن شرع الله -تعالى- والخوف من الفقر وجهان لعملة واحدة، إذا تواجد أحدهما فلابد وأن يتواجد الآخر، والمتابع لتاريخ البشر على ظهر الأرض يكتشف ظهور الدعوة إلى تحديد النسل في الأمم التي ابتعدت عن فطرة الله واتخذت لنفسها تشريعاتٍ وقوانينَ ما أنزل الله بها من سلطان؛ فتكون النتيجة أن يُوكَلوا إلى عقولهم وتشريعاتهم التي ارتضوها من دون الله؛ مما يؤدي إلى تنامي الشعور بالعجز وقلة الحيلة، والإحساسِ بضيق الرزق وعدم كفايته؛ مع أن الله تكفل برزق المؤمن والكافر على حد سواء!
ففي بعض "النقوش الأكدية" -عن بلاد ما بين النهرين عزاها العلماء إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد- نصوصٌ تشير إلى أن الآلهة كانت تنزعج من كثرة الناس وتزايد الضجيج؛ فيأمرون بإحلال الأوبئة والأمراض، وحجبِ المطر عن الناس، وغيرِها من الوسائل التي تؤدي إلى الحد من عدد السكان!
وعند "الإغريق" ظهرت دعاوى تحديد النسل في القرن الرابع قبل الميلاد؛ فنجدهم في أشعارهم يعتقدون أن زيادة السكان كانت سببًا في حرب "طروادة". وذكر "مالتس" أن فلاسفة الإغريق كانوا يعتقدون خطر زيادة السكان؛ فكانوا يعمدون إلى قتل أطفالهم! وحدد "أرسطو" عدد المواطنين بما لا يزيد عن 5040 مواطنـًا في المدينة، واعتبره العدد الأمثل للسكان في المدينة.
ومن المعلوم لدينا -بالطبع- ما كانت تفعله قبائل العرب قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية مِن قتل لأطفالهم؛ خوفـًا مِن أن يشاركوهم الرزقَ، وهو ما ذكره القرآن الكريم في غير موضع.
أما في العصر الحديث وتحديدًا في "إنجلترا" في عام 1798م؛ فقد ظهرت "نظرية مالتس" للسكان؛ ومفادها أن عدد سكان العالم يتزايد تبعًا لمتوالية هندسية: "1، 2، 4، 8، 16، 32، 64، 128"، بينما تزداد وسائل المعيشة -مِن غذاء وملبس ومواصلات وسكن- تبعًا لمتوالية عددية: "1، 2، 3، 4، 5، 6".
وعلى ذلك فخلال قرنين يكون عدد السكان بالنسبة لوسائل المعيشة كنسبة: 256 إلى 9، وبعد ثلاث قرون يكون كنسبة 4096 إلى 13، وفي مرحلة متقدمة تؤول الموارد إلى تناقص؛ فالطبيعة لها حد في العطاء تبدأ بعده في تناقص الموارد وهذا ما سمِّي بـ"تناقص الغلة".
ويشير "مالتس" إلى أن هناك نوعين من الموانع التي تعمل على الحد من الزيادة السكانية:
النوع الأول: موانع قهرية؛ مثل: المجاعات، والأمراض، والحروب. وتنتشر هذه الموانع في الدول الفقيرة، وتقضي على جزء من السكان؛ فيعود بعدها التوازن بين السكان وكميات الغذاء.
والنوع الثاني: موانع وقائية؛ مثل: الامتناع عن الزواج أو تأجيله. وتسود هذه الموانع في الدول الصناعية المتقدمة، وينتج عنها التوازن بين عدد السكان وكميات الغذاء في هذه البلاد.
وقد ثبت علميًّا وتاريخيًّا خطأ نظرية "مالتس"؛ لأنه إذا افترضنا -جدلاً- صحة متواليات "مالتس" على صورتها تلك؛ فإنها تكون مرتبطة باستمرار الأوضاع العالمية على ما هي عليه عام 1798م! ولكن هل حدث ذلك؟
بالطبع لا؛ فمنذ الثورة الصناعية في إنجلترا في القرن الـ"18" ومع بدء زراعة السهول العظمى بأمريكا الشمالية تضاعف حجم الإنتاج الصناعي والزراعي في أوروبا وأمريكا الشمالية بمقدار يتراوح بين 30 إلى 40 ضعفًا خلال الفترة ما بين 1850 إلى 1950م، بينما تضاعف عدد سكان العالم خلال تلك الفترة مرة واحدة فقط من 1171 مليون نسمة إلى 2400 مليون نسمة! وهذا يتناقض تمامًا مع نظرية "مالتس"؛ لأن الإنتاج لم يكن أقل من الزيادة في عدد السكان، بل تفوق عليه بـ"40" ضعفـًا، وهذا فيما مضى من تاريخ؛ فكيف ونحن الآن في عصر التقدم التكنولوجي وأثره الكبير على تقدم الزراعة والصناعة، واكتشافِ موارد البحار والجبال، وغزوِ الفضاء؟!
لا شك أن كل هذا يطيح بنظرية "مالتس" لدرجة أن د/ "رمزي زكي" يقول في كتابه: "المشكلة السكانية وخرافة المالتسية الجديدة": "أصبح هناك ما يشبه الإجماع الضمني بين الاقتصاديين بأن التاريخ قد أثبت عدم صحة الرؤية المالتسية في السكان"، ويقول "دينيسه رونج" في كتاب علم السكان: "ولا يتقبل اليوم نظريته عن السكان -أي مالتس- بالشكل الذي صدرت به أصلاً سوى قلة من الديمغرافيين –يعني علماءَ السكان-".
ولكن وعلى الرغم من كل ما سبق؛ فإن الأفكار المالتسية لم تَمُتْ! بل تلقفتها بعض الأيدي؛ لتنفض عنها غبار القرن الثامن عشر الذي أتت منه، وتعيدَ صياغتها في شكل جديد يتلاءم مع معطيات القرن العشرين. وأصبح الحديث يدور حول الحجم الأمثل للسكان؛ لأن الموارد لا تكفي لتزايد السكان إلى ما لا نهاية! وكان من ضمن الأيدي التي تلقفت الأفكار المالتسية "مارك فينكل يلش" و"سيد جويك" عام 1883م في كتاب مبادئ الاقتصاد السياسي، و"إدوين كانان" وغيرهم، وسمِّي هذا الاتجاه: بـ"المالتسيين الجدد"، ونشط هذا الفكر بعد الحرب العالمية الثانية في ستينات القرن العشرين؛ حيث رأى أصحابه أن قلة الغذاء العالمي والجوعَ والتخلفَ سببٌ من أسباب النمو السكاني، وهذا ما أسموه بالانفجار السكاني، ونجح هؤلاء في الترويج لأفكارهم لدى عدد كبير من الاجتماعيين والأطباء والاقتصاديين في دول أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأصدر نادي روما عام 1972م تقريره الذي أسماه "حدود النمو"؛ الذي راح يبشر بوقوع كارثة عالمية قبل انتهاء القرن الواحد والعشرين؛ بسبب انتهاء المواد الأولية وتلوث البيئة، ولمنع هذه الكارثة ينبغي وقف النمو السكاني.
ومن ضمن مَن تأثروا بأفكار "المالتسيين الجدد": "الجمعية الطبية المصرية" التي أخذت على عاتقها الدعوة إلى تحديد النسل في مصر، ولاقت الدعوة قبولاً عند الحكومة المصرية آنذاك؛ حتى إن ميثاق العمل الوطني في عام 1961م أكد أن مشكلة تزايد السكان هي أخطر العقبات التي تواجه جهود الشعب المصري في انطلاقته نحو رفع مستوى الإنتاج!
أما في أوروبا وأمريكا والاتحاد السوفيتي واليابان؛ فقد ظهرت تشريعات وقوانين تبيح الإجهاض وتدعو إلى تحديد النسل، بل وصل الحال ببعض المالتسيين إلى المطالبة بإجراء عَقـْم للرجال والنساء بشكل إجباري، والعَقـْمِ الجماعي بغير علم الناس عن طريق وضع مواد كيماوية في الماء والطعام! والوقوفِ ضد إصدار قوانين إغاثة الفقراء! بغرض منعهم من التكاثر، وإصدارِ قوانين تُعَقِّد عملية الزواج، وسَنِّ ضرائب على الأطفال!! إلى غير ذلك من المقترحات التي تتنافى مع أبسط مقتضيات الفطرة الإنسانية.
وكما ذكرنا فقد لاقت الأفكار المالتسية آذانـًا صاغية عند معظم الحكومات العربية، واعتبرت هذه الحكومات تحديدَ النسل من أهم أهدافها الإستراتيجية في سبيل تحقيق النهضة الاقتصادية المنشودة، وراحت تنفق على الحملات الطبية والإعلانية؛ لتوعية الناس بمخاطر الانفجار السكاني، ووفرت جميع الوسائل الطبية اللازمة لإنجاح حملة تحديد النسل!
والآن... وبعد ما يقرب من 40 عامًا على ظهور المالتسية في ثوبها الجديد ونجاحِها الباهر في تسويق أفكارها لدى جميع دول العالم: هل حقـًّا كانت المشكلة في عدد السكان؟! وهل حقـًّا يوجد أزمة سكانية في بلادنا؟!
من المعلوم أن مساحة العالم العربي تقدر بـ"14" مليون كيلومتر مربع؛ لتشكل 10% من مساحة العالم المسكون، في حين أن تعداد السكان العرب يبلغ حوالي 313 مليون نسمة حسب إحصائية 2006م؛ أي حوالي 5% من سكان العالم البالغ تعداده 6 مليار نسمة! فهل حقـًّا يوجد أزمة سكانية في الوطن العربي؟؟
ومن المعلوم أن مساحة اليابان تقدر بـ"378" ألف كيلو متر مربع؛ وهو ما يعادل حوالي ثلث مساحة مصر المقدرة بـ"مليون" كيلومتر مربع، في حين أن عدد سكان اليابان يبلغ 128 مليون نسمة حسب إحصائية 2008م، ويبلغ عدد سكان مصر 75 مليون نسمة حسب إحصائية 2007م! واليابان عبارة عن مجموعة الجزر والمرتفعات؛ حيث تمثل الطبيعة الجبلية 73% من مساحة البلاد! وتقع اليابان في منطقة بركانية هي جزء مما يعرف بحلقة المحيط الهادي النارية؛ وتحدث بها الزلازل المدمرة التي تتبعها غالبًا موجات التسونامي البحرية مرات عدة كل قرن! وهي تستورد البترول والمواد الخام! ولكن رغم كل ذلك؛ فاليابان هي ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة! وهي أعجوبة العصر في الصناعة، ولم نسمع يومًا أن بها أزمة سكانية أو أن كثافتها السكانية العالية-338 فرد لكل كيلومتر مربع بينما في مصر 75 فرد لكل كيلو متر مربع- قد أثرت على اقتصادها!!
وللحق فإن اليابان تعاني فعلاً من أزمة سكانية حقيقية هذه الأيام، ولكنها أزمة مِن نوع مختلف؛ إنها أزمة تناقص السكان! فبمجرد تناقص معدلات المواليد هرعت وزارة الصحة اليابانية إلى تحذير الحكومة بأن استمرار المعدلات الحالية على ما هي عليه يؤدي إلى تناقص عدد سكان اليابان بحلول عام 2050م إلى 95 مليون نسمة؛ وعند ذلك يتوجب على حكومة اليابان رفع سن التقاعد إلى 77 عامًا أو قبول 10 مليون مهاجر سنويًّا حتى عام 2050م؛ إذا أرادت اليابان أن تحافظ على استمرارها كقوة عظمى في عالم الاقتصاد!!
ومن المعلوم أن مساحة السودان الغني بالثروات الطبيعية والأراضي الخصبة والثروة الحيوانية الوفيرة تبلغ 2.5 مليون كيلو متر مربع؛ أي حوالي ربع مساحة قارة أوروبا البالغة 10.5 مليون كيلو متر مربع، بينما يبلغ عدد سكان السودان 38 مليون نسمة حسب إحصائية 2006م؛ أي حوالي 5% من عدد سكان أوروبا البالغ 731 مليون نسمة في عام 2004م! ورغم ذلك نجد الأزمات الاقتصادية تتفاقم في السودان وليست أوروبا!!
أما الصين فتبلغ مساحتها 9.5 مليون كيلو متر مربع؛ أي تقل عن مساحة الوطن العربي بحوالي 5 مليون كيلو متر مربع، بينما يبلغ تعداد الصين مليار و300 مليون نسمة؛ بما يزيد عن سكان الوطن العربي بحوالي مليار نسمة! ورغم ذلك؛ فالصين في طريقها لتصبح القوة العظمى الأولى في العالم!!
وتبلغ مساحة الولايات المتحدة الأمريكية 9.8 مليون كيلومتر مربع؛ بما يقل عن مساحة الوطن العربي بحوالي 4 مليون كيلومتر مربع، بينما يبلغ عدد سكانها 281 مليون نسمة حسب تعداد عام 2000م، ومِن المتوقع أن يرتفع في 2009م إلى 307 مليون نسمة؛ أي يقل قليلاً عن سكان الوطن العربي! ورغم ذلك؛ فالولايات المتحدة ما زالت تفتح أبوابها للهجرات الواردة إليها من جميع أنحاء العالم! بل وتعلن سنويًّا مِن خلال سفاراتها عن مسابقات الهجرة العشوائية التي يتقدم إليها آلاف الشباب من الوطن العربي!!
وفي فرنسا التي تبلغ مساحتها 675 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ تعداد سكانها 65 مليون نسمة حسب تعداد 2009م؛ نجد أن هنالك العديد مِن القوانين والتشريعات التي تشجع على زيادة المواليد! وتشجع على جلوس أحد الأبوين في البيت ليرعى أطفاله مقابل 500 يورو شهريًّا في حالة تكَوُّنِ الأسرة مِن طفلين، و750 يورو في حالة تكَوُّنِ الأسرة مِن ثلاثة أطفال!!
وفي إيطاليا التي تبلغ مساحتها 301 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ تعدادها 60 مليون نسمة حسب تعداد 2009م؛ نجد أن الحكومة تحاول جاهدة تشجيع النمو السكاني بتقديم 500 يورو شهريًّا لكل أسرة تتكون مِن طفلين؛ لتشجيع النساء على الولادة!!
وفي ألمانيا التي تبلغ مساحتها 357 ألف كيلو متر مربع -ثلث مساحة مصر-، ويبلغ تعدادها 82 مليون نسمة حسب تعداد 2008م؛ نجد أن الحكومة الألمانية بمجرد تناقص معدلات المواليد بالنسبة لمعدلات الوفيات هرعت إلى تقديم الكثير من التشجيعات؛ لحث الألمان على إنجاب المزيد من الأطفال؛ مثل: إمكانية أن يأخذ الوالدين إجازة لرعاية أطفالهم بأجر يصل إلى 67% مِن أجرهم العادي، وطرحت الحكومة الألمانية في عام 2007م اقتراحات بعمل تخفيضات ضريبية لمساعدة الأزواج الذين يريدون إنجاب الأطفال، كما وافقت على زيادة أعداد مدارس الحضانة التي تسمح للنساء بتربية الأطفال مع الاستمرار في العمل!!
أما روسيا التي تبلغ مساحتها 17 مليون كيلو متر مربع؛ فقد انخفض بالفعل عدد سكانها من 149 مليون نسمة عام 1990م إلى 145 مليون نسمة عام 2002م، ثم إلى 143 مليون نسمة عام 2005م؛ ولكنَّ الروسَ لم يفرحوا بهذا التناقص الذي لو حدث مثلُه في بلادنا لعَدُّوه فتحًا مبينـًا وخطوة عملاقة نحو تحقيق الرخاء الاقتصادي! بل اعتبروه أكبر أزمة تهدد الأمة الروسية في العصر الحديث؛ لأن استمرار معدل التناقص على ما هو عليه الآن معناه أن تعداد الروس عام 2050م سوف ينخفض بمقدار الثلث، وذلك حسب تقرير الأمم المتحدة. وكان الرئيس الروسي السابق "بوتين" قد طلب وقتها من البرلمان زيادة الدعم الحكومي للطفل الواحد بمقدار الضعف ليصل إلى 1500 روبل شهريًّا -55 دولار أمريكي-، وأضاف أن المرأة التي ستنجب طفلاً ثانيًا ستحصل على مكافأة قدرها 250 ألف روبل -9200 دولار أمريكي-، وهو مبلغ ضخم إذا علمتَ أن متوسط الدخل الشهري في روسيا لا يتعدى 330 دولار!!
إن الدول الكبرى تدرك أن تناقص عدد السكان معناه أن تجد هذه الدول نفسَها في موقف تفتقد فيه إلى الأيدي العاملة اللازمة لتشغيل المصانع والدفاع عن البلاد!
معناه أن تضطر إلى فتح باب الهجرة إليها على مصراعيه؛ لتقبل أعدادًا كبيرة من المهاجرين؛ لسد العجز السكاني!
معناه أن هذه الشعوب سوف تواجه خطر الانقراض!!
إن الدول الكبرى هي مَن تدرك أهمية النسل؛ لأن معدل ساعات العمل للفرد الواحد فيها على مدار السنة يبلغ 7 ساعات يوميًّا "اليابان".
أما الدول "غير الكبرى" فلا تدرك أهمية النسل؛ بل تعتبره أكبر مشاكلها وسبب أزماتها؛ لأن معدل ساعات العمل للفرد الواحد فيها على مدار السنة يبلغ 28 دقيقة يوميًّا "مصر"!
إن المشكلة ليست في النسل؛ ولكنها في العقل الذي يدير النسل.