مفهوم تنازع القوانين ونشأته ومقوماته:
الفصل الأول: مفهوم تنازع القوانين
تثور مشكلة تنازع القوانين بصدد علاقات الأفراد المشتملة على عنصر أجنبي بالنسبة إلى دولة معينة أو ذات طابع دولي.
فالتنازع يعني: وجود قانونين أو أكثر كل منها قابل للتطبيق على العلاقة القانونية التي تنشأ بين الأفراد والمشتملة على عنصر أجنبي وبالتالي فإن هذه الحالة تستلزم معرفة أنسب القوانين التي يجب أن تخضع لها هذه العلاقة وهذا هو موضوع تنازع القوانين.
إذاً العلاقات التي يثور بصددها التنازع هي علاقات الأفراد التي يحكمها القانون الخاص أصلاً أي العلاقات التي تقوم بين أشخاص القانون الخاص سواء كانوا أشخاصاً طبيعيين أم اعتباريين وسواء أكانوا من الوطنيين أم من الأجانب.
ودخول العنصر الأجنبي على هذه العلاقات هو الذي يخرجها من نطاق القانون الداخلي ليدخلها في نطاق القانون الدولي الخاص ويخضعها لقواعد تنازع القوانين التي تتكفل بتحديد القانون الواجب التطبيق بشأنها من بين القوانين التي تتجاذبها وقد يكون هذا القانون هو القانون الوطني أو قانون دولة أجنبية.
وإن القابلية التي تتمتع بها القوانين التي ترتبط بالعلاقة عن طريق عناصرها المختلفة لا تعني أن كل قانون من هذه القوانين يدعي لنفسه حقاً في حكم هذه العلاقة دون القوانين الأخرى التي تتصل بها بل تعني عدم إنكار صلة العلاقة ذات الطابع الدولي بالوقت نفسه بقوانين أخرى تتمتع هي أيضاً بالقابلية نفسها مما يستلزم ضرورة قيام تنسيق بينها وذلك عن طريق اختيار أفضل القوانين وأنسبها لحكم هذه العلاقة.
أولاً- تنازع القوانين الدولي وأنواع التنازع الأخرى:
1)- تنازع القوانين من حيث المكان وتنازع القوانين من حيث الزمان:
إن مفهوم التنازع الدولي الذي ذكرناه في الفقرة السابقة ينصرف إلى تنازع القوانين من حيث المكان أي تنازع قوانين الدول المختلفة وهو يختلف عن تنازع القوانين من حيث الزمان سواء من حيث اتجاهه أم سببه أم حلوله.
س- التفريق بين التنازع المكاني والتنازع الزماني من حيث الاتجاه والسبب والحل؟
التنازع المكاني:
أ- اتجاهه: يعمل باتجاه أفقي بصدد علاقة قانونية بين قوانين دول مختلفة ومحددة في لحظة معينة.
ب- سبب نشوئه: وجود عناصر وطنية وعناصر أجنبية في العلاقة القانونية من شأنه أن يثير تنازعاً بين القانون الوطني والقانون الأجنبي أو وجود عناصر كلها أجنبية.
ج- حله: يفض عن طريق قواعد خاصة تسمى قواعد تنازع القوانين أو قواعد الإسناد.
أما التنازع الزماني:
أ- اتجاهه: يعمل باتجاه شاقولي بصدد علاقة قانونية بين قوانين متعاقبة في دولة واحدة أي بين قانون قديم وجديد صادر عن سيادة واحدة.
ب- سبب نشوئه: صدور قوانين متلاحقة في دولة ما بصدد تنظيم مسألة معينة.
ج- حله: يخضع لقواعد تعرف بالقواعد الانتقالية لتنازع القوانين من حيث الزمان.
2)- أشكال التنازع المكاني (صور التنازع المكاني):
أ- تنازع أنظمة التنازع:
تختلف قوانين الدول فيما بينها من حيث تحديد القانون الواجب التطبيق على مختلف المسائل القانونية بموجب قواعد الإسناد التي تضعها لهذا الغرض والتي تؤلف في مجموعها نظام تنازع القوانين في كل دولة.
وينشأ عن هذا الاختلاف قيام تنازع بين قواعد الإسناد في قوانين الدول المختلفة وهو ما يعرف باسم تنازع أنظمة التنازع.
ب- التنازع الثابت:
وهو التنازع الذي ينشأ بصدد علاقة قانونية لم تتبدل عناصرها منذ قيامها وحتى نفاذها لا من حيث المكان ولا من حيث الزمان.
مثال: كما لو تزوج شاب لبناني من فتاة سورية ثم ثار نزاع بينهما حول صحة هذا الزواج ففي هذه الحالة يقوم تنازع بين قانون دولة الزوج وقانون دولة الزوجة وذلك منذ لحظة نشوء رابطة الزوجية بينهما.
ج- التنازع المتحرك أو المتغير: (دورة)
هو التنازع الذي ينشأ خلال مرحلة نفاذ العلاقة أي بعد قيامها وقبل المنازعة فيها.
مثال: كما لو غير الزوج في مثالنا السابق جنسيته بعد الزواج واكتسب الجنسية الفرنسية ثم رغب في طلاق زوجته ففي هذه الحالة يثور تنازع بين قانون جنسية الزوج وقت الزواج (القانون اللبناني) وقانون جنسيته وقت الطلاق (القانون الفرنسي) بالإضافة إلى التنازع بين قانون الزوج وقانون الزوجة.
فالتنازع المتغير يتضمن بالإضافة إلى التنازع المكاني بين قانون دولة الزوج وقانون دولة الزوجة تنازعاً مكانياً بين قانون دولة الزوج وقت الزواج وقانونه وقت الطلاق.
وهذا التنازع الزماني هو في حد ذاته أيضاً تنازع مكاني لأنه تنازع بين قانونين لدولتين مختلفتين.
س)- ما الفرق بين التنازع الثابت والتنازع المتغير؟
التنازع الثابت: ينشأ مع قيام العلاقة.
بينما التنازع المتغير: ينشأ خلال مرحلة نفاذ العلاقة أي بعد قيامها وقبل المنازعة فيها.
3)- التنازع الدولي والتنازع الداخلي: (دورة)
أ)- التنازع الدولي: هو التنازع الذي يقوم بين قوانين دول مستقلة ذات سيادة تتمتع بآنٍ واحد بوصف الدولة وبالشخصية الدولية وفقاً لمبادئ القانون الدولي العام.
وقد يقوم بين قانون وطني وقانون أجنبي، مثال: كزواج لبناني من فتاة سورية.
وقد يقوم بين قانون وطني وعدة قوانين أجنبية، مثال: كالتعاقد بين تاجر سوري وتاجر إسباني في قبرص لتوريد آلات زراعية إلى سورية.
وقد يقوم بين قوانين كلها أجنبية بالنسبة لسورية، مثال: كما لو أوصى شخص فرنسي بقسم من أمواله الموجودة في لبنان لمطلقته التركية المقيمة في سورية.
ب)- التنازع الداخلي: هو التنازع الذي يقوم بين شرائع الدولة الواحدة التي تتعدد فيها الشرائع بتعدد الأقاليم المكونة لها (تعدد إقليمي) أو بتعدد الأديان أو الطوائف أو الأجناس ضمن سكان هذه الدولة (تعدد شخصي) كسوريا.
ثانياً: خصائص القوانين المتنازعة:
1)- الصفة الدولية للقوانين المتنازعة: (دورة)
القوانين لا تكون طرفاً في التنازع الدولي إلا إذا كانت صادرة عن وحدات سياسية تتمتع بآنٍ واحد بوصف الدولة وبالشخصية الدولية وفقاً لمبادئ القانون الدولي العام.
أي يجب أن يكون القانون صادراً من دولة مستقلة ذات سيادة وبغض النظر عن درجة استقلالها سواء أكانت خاضعة لنظام الانتداب أو الوصاية أو الحماية.
س)- هل من الضروري أن يكون القانون صادراً عن دولة معترف بها وبحكومتها من قبل دولة القاضي الذي ينظر في النزاع حتى يتمكن هذا القاضي من تطبيقه؟
ج(- أ- مسألة الاعتراف بالدولة الأجنبية: ينطوي عدم الاعتراف بالنسبة لدولة القاضي على إنكار كلي لوجود الدولة غير المعترف بها وبشخصيتها في المجتمع الدولي ولكل ما يصدر عنها من قوانين باعتبار هذا العمل مظهراً من مظاهر سيادتها وبناءً على ذلك فإنه لا مجال للقول بقيام تنازع بين القوانين السورية والقوانين الإسرائيلية وبالتالي لا يمكن تصور قيام المحاكم السورية بتطبيق القوانين الإسرائيلية.
ب- مسألة الاعتراف بالحكومة: ثار جدل فقهي وقضائي كبير في هذا الموضوع ويمكن التمييز بين اتجاهين:
الاتجاه الأول: يرى أنه لا يجوز للقاضي الوطني تطبيق قانون أجنبي إلا إذا كانت دولته قد اعترفت بالحكومة التي أصدرت هذا القانون.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه السائد حالياً ويرجحه الدكتور فؤاد ديب فيرى أن عدم الأخذ بقوانين الدول غير المعترف بحكوماتها يؤدي إلى نتائج غير منطقية كما أن الاعتراف بدولة أو عدمه مسألة سياسية تنبع من اعتبارات تتعلق بظروفها السياسية ومصالحها وعلاقاتها المتبادلة أما تنازع القوانين فهو مسألة قانونية تعني بتنظيم علاقات الأفراد دون أن يكون لعلاقات الدول مساس مباشر فيها ولهذا يجب عدم تعليق تطبيق القانون الأجنبي من قبل القاضي على اعتراف دولته بالسلطات التي أصدرت هذا القانون طالما أنها تمارس سلطة التشريع بشكل مستقر وثابت ودون منازعة وتتولى محاكمها تطبيقه.
2)- الصفة الخاصة للقوانين المتنازعة: (دورة)
لا يكفي أن يكون القانون متمتعاً بالصفة الدولية بل يجب أن يكون متمتعاً بالصفة الخاصة أيضاً أي أن يكون القانون من فروع القانون الخاص الناظم لعلاقات الأفراد.
ونستخلص من ذلك: يجب أن تجتمع في القانون بآن واحد صفتان: الصفة الدولية والصفة الخاصة والتسليم بهاتين الصفتين يستلزم ما يلي:
أ- استبعاد الشرائع الداخلية المعروفة في بعض الدول التي تتعدد فيها الشرائع تعدداً شخصياً أو إقليمياً وذلك استناداً إلى الصفة الدولية لتنازع القوانين: لأن هذه الشرائع وإن كانت تتمتع بالصفة الخاصة إلا أنها ليست بقوانين دول بل هي قوانين طوائف بشرية أو أقاليم مختلفة تفتقر إلى الشخصية الدولية على الصعيد الدولي.
ب- استبعاد فروع القانون العام من نطاق تنازع القوانين كالقانون الدستوري والجزائي والمالي وذلك استناداً إلى الصفة الخاصة للقوانين المتنازعة: لأن القوانين العامة تثير على الصعيد الدولي مشكلة تحديد نطاق تطبيقها من حيث المكان ولأن القواعد الناظمة لها في كل دولة لا تسمح بتطبيق قوانين أجنبية على العلاقات التي تخضع أصلاً للقوانين العامة الوطنية فالقاضي يقف في ميدان القانون العام عند حدود السيادة الإقليمية لقانونه الوطني فإذا كان الأمر يدخل ضمن نطاق سيادة قانونه العام طبق هذا القانون وإلا فإنه يجب أن يعلن عدم اختصاصه ولا يكون في هذه الحالة مكلفاً بالبحث عن القانون الأجنبي المختص.