خلال الأسبوع الأخير، فك الله عقدة لسان وزيرين سابقين في الحكومة وأحد مؤسسي حزب الاستقلال: الأول اسمه الأشعري، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، «نطق» في سلا بمقر مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد بمناسبة انعقاد ندوة حول «مفهوم الوطنية»، والثاني اسمه نبيل بنعبد الله عضو الديوان السياسي للتقدم والاشتراكية، «نطق» في مراكش خلال لقاء صحافي حول موضوع «حرية الصحافة والمسؤولية»، والثالث اسمه أبو بكر القادري الذي يعتبره حزب الاستقلال مجاهدا من مجاهديه، كشف في ندوة مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد عن «توحشه» لسماع كلمة لا.
الأول شغل منصب وزير الاتصال والثقافة خلال حكومة عبد الرحمان اليوسفي، قبل أن ينتزعوا منه لقب ذي الوزارتين ويتركوا له حقيبة الثقافة لوحدها خلال حكومة جطو. والثاني شغل منصب وزير الاتصال والناطق الرسمي باسم الحكومة، قبل أن «يسقط» في الانتخابات ويحط الرحال بسفارة المغرب بروما ثم يطرد منها بعد «المناتفة» الكلامية بين زوجته وزوجة وزير الخارجية.
فماذا قال الوزيران السابقان؟
بالنسبة إلى محمد الأشعري، الذي قال في أحد حواراته التي أعطاها مباشرة بعد خروجه من الحكومة إنه ابتعد عن السياسة قليلا ليتفرغ لتربية «العودان»، فعلاقة الحاكم بالمحكوم لا تنبني على الثقة العمياء. ونصح الشباب بمقاومة سياسة الإخبار البعدي الذي تمارسه الدولة عبر إعلامها الرسمي.
أما نبيل بنعبد الله، فقد قال إن هناك جهات نافذة في الدولة تخاف من الصحافة وتعمل على لجمها، وأضاف أن هناك إصدارات صحافية مخترقة من طرف أجهزة في الدولة تزودها بالملفات المثيرة والمستفزة. كما اتهم هذه الأجهزة الموجودة داخل الدولة بالمحافظة والخوف من التطورات الحاصلة.
هذا الكلام الجميل والواقعي والمنطقي والجريء يفقد مصداقيته وقوته وبراءته عندما يخرج من أفواه أشخاص مثل محمد الأشعري ونبيل بنعبد الله، تحمل كل واحد منهما مسؤولية وزارية ولم يسجل على أي منهما، طيلة وجوده في الحكومة، أنه فتح فمه لكي يجهر بربع ما يثرثر به اليوم في الموائد المستديرة «للمهاضرات».
كان سيكون لهذا الكلام معنى لو أن الوزيرين غامرا بتبنيه خلال تحملهما للمسؤولية الحكومية، حتى ولو اقتضى ذلك إعفاءهما من الوزارة. لكن الذي حصل هو أن الوزيرين المحترمين حافظا، طيلة سنوات جلوسهما على الكرسي الوثير للوزارة، على صمتهما الحكيم، بل وكانا من أكبر الممجدين لسياسة الدولة الإعلامية التي ينتقدانها اليوم.
السيد محمد الأشعري عندما يطالب شباب اليوم، تحت مبرر «الوطنية»، بمقاومة الإخبار البعدي الذي يقوم به الإعلام العمومي حول «الإنجازات» الباهرة، متغاضيا عن المشاكل التي يغرق فيها المواطنون، ويدعو السياسيين إلى تبني موقف عبد الرحيم بوعبيد والقطع مع الثقة العمياء في علاقة الحاكم بالمحكوم، ينسى أنه ظل يشغل، لأكثر من عشر سنوات، منصب وزير الإعلام والثقافة في حكومتين متعاقبتين، وينسى أنه عندما كان يتولى حقيبة الاتصال لم يتجرأ على انتقاد «الإخبار البعدي» الذي كان يقوم به الإعلام العمومي للمنجزات تحت إمرته والذي تحول أحد قادته، أحمد الزايدي، إلى رئيس للفريق الاتحادي في البرلمان.
وطيلة «تخييم» السيد محمد الأشعري في حكومتين، لم يسمعه أحد ينتقد، حتى في مجالسه الخاصة، الثقة العمياء بين الحاكم والمحكوم. الآن بعد أن يئس «الشاعر الأشعري» من العودة إلى الحكومة، فقد بدأ «يغلض الهضرة» ويتحدث عن الثقة التي لا يجب أن تكون عمياء بين الحاكم والمحكوم، أي بالعربية تاعرابت بين الملك وشعبه. فلعل وعسى يفهم أصحاب الوقت «رؤوسهم»، ويجودوا على الأشعري بسفارة أو رئاسة مؤسسة عمومية من المؤسسات التي نسي «خطافين البلايص» الانقضاض عليها.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، أمام هذا الاستغباء المفضوح للشعب، هو لماذا «ثاق» الأشعري، طيلة عشر سنوات كاملة، في الحاكم ولم يعتر هذه الثقة أي شك أو زعزعة؟ لماذا كان الأشعري حذرا في كل تدخلاته وحواراته ومواقفه عندما كان وزيرا، وسكت عن هجوم الدولة بسيف القضاء، الذي كان يحمله الوزير الاتحادي محمد بوزوبع، على الصحافة وإقفالها للعديد من الصحف؟
أين كان سعادة الوزير الاتحادي التقدمي عندما كان الإعلام العمومي في عهده يعود إلى أحلك فتراته بعدما استعادت الداخلية سطوتها عليه؟ لماذا لم يفتح فمه مرة واحدة لانتقاد هذا «الإخبار البعدي» الذي يفقد الشباب ثقتهم في وطنهم؟
الجواب ببساطة هو أن الأشعري كان يتقلب في عسل الوزارة. لذلك فعوض أن ينتقد أداء الإعلام والانحطاط السياسي الذي وصل إليه حزبه عندما وضع العصابة فوق عينيه ودخل الحكومة، تكفل بتزيين أداء هذا الإعلام المتخلف وحارب، إلى جانب الداخلية، الإعلام المستقل الذي يفتح له الآن صفحاته لكي يغالط الرأي العام.
أما «واحد» السي نبيل بنعبد الله، فيبدو أنه نسي، في غمرة عنترياته المراكشية، أن الإعلام الذي يريد أن يقدم نفسه اليوم كأحد الفرسان المدافعين عنه سبق له أن اتهمه بـ«الضصارة» عندما كان يجرجر أمام المحاكم. كما أنه نسي، وهو يتهم بعض الإصدارات الصحافية بكونها مخترقة من طرف بعض أجهزة الدولة، أن يكمل خيره ويحدد أسماء هذه الإصدارات حتى يعرفها الشعب، ويحدد معها الأجهزة التي تمارس هذا الاختراق ضدا على القوانين.
طبعا، هناك إصدارات ومقاولات صحافية مخترقة من طرف أجهزة الدولة، وإلا لما استطاعت هذه الإصدارات الخروج بانتظام في الوقت الذي لا تبيع فيه سوى نسخ معدودات ولا تملك عائدات إشهارية، ومع ذلك تؤدي رواتب صحافييها ومستخدميها كل شهر. من أين يأتي أصحاب هذه المقاولات والإصدارات بالمال إذا لم يكن من صناديق هذه الأجهزة السوداء التي يعرفها نبيل بنعبد الله عز المعرفة بحكم اشتغاله في الحكومة كل هذه السنوات. لماذا لا يتحلى السي نبيل بالجرأة الضرورية، هو الذي يحب «تخراج العينين»، ويطلعنا على أسماء مدراء هذه المقاولات والإصدارات التي تعيش بفضل أنابيب التغذية الاصطناعية لهذه الصناديق السوداء؟
أما المجاهد أبو بكر القادري، الذي «توحش» سماع كلمة لا، فلا يظهر أن أحدا يمنعه من أن يجهر بها هو نفسه في وجه عباس الفاسي الذي لا وجود لمثل هذه الكلمات في قاموسه السياسي. أليس أبو بكر القادري أحد شيوخ حزب الاستقلال الذين لازالت لهم كلمتهم المسموعة في الحزب. لماذا لا يجهر بكلمة لا في وجه هذا التردي الذي يعيشه حزب علال الفاسي؟
لو كان أبو بكر القادري يحب كلمة لا لكان قالها في وجوه الذين أرسلوا إليه في بداية السبعينيات، في أوج صراع النظام مع الاتحاديين، مخبرا على هيئة أستاذ للفلسفة لكي يدرس في مدرسة «النهضة» التي يملكها. والحقيقة أن «الأستاذ» كان مكلفا بترصد حركات الاتحادي المعارض «عمر دهكون» الذي كان يختفي في المنطقة التي تتواجد بها مدرسة أبو بكر القادري بسلا. وعندما تمكن «الأستاذ» المخبر من صدم عمر دهكون بسيارته وتكسير إحدى قدميه، تم اعتقاله وقدم إلى المحاكمة وأعدم في سجن القنيطرة بتهمة التآمر من أجل قلب النظام. وبعدها اختفى الأستاذ ولم يعد إلى تدريس الفلسفة في مدرسة «النهضة».
إن الوزيرين المحترمين، اللذين يريدان أن يلعبا اليوم دور الحكيمين والمعارضين اللذين يعطيان الدروس للنظام والدولة والحكومة، ينسيان أنهما تورطا في العمل الحكومي بما يكفي لكي يغلقا فميهما إلى الأبد.
كان كلامهما سيكون ذا مفعول وقيمة إضافية لو أنه قيل أثناء تحملهما للمسؤولية الحكومية. وكان موقفهما سيكون محترما لو أنهما ناضلا خلال وجودهما داخل الحكومة من أجل الدعوة إلى إعمال «الثقة المتبصرة» في علاقة الحاكم بالمحكوم والقطع مع «الشقة العمياء». كان كلامهما سيكون منطقيا لو أنهما قاوما «الإعلام البعدي» الذي يحترف استعراض المنجزات ويقتل الوطنية في نفوس الشباب، وفضحا الأجهزة التي تخترق الإعلام أثناء تحملهما لحقيبة الإعلام.
أما انتظار الخروج من الحكومة وفقدان المناصب الدبلوماسية لكي تفك أخيرا عقدة لسانيهما، فهذا يدخل في باب «البكا مورا الميت» الذي يعرف الوزيران أنه «خسارة».
لكن ربما يكون الهدف من وراء هذا البكاء الجماعي، الذي انخرط فيه وزيران سابقان لم «يطيحا» على شيء خلال التعديل الحكومي الأخير، «مندبة» كبيرة الميت فيها مجرد فأر.
فقد أصبح تقليدا مغربيا معروفا أن كل من يريد الحصول على منصب حكومي أو رسمي ما عليه سوى أن «يغلض الهضرة» ويهز «البارة» قليلا نحو الأعلى. اللعبة أصبحت «باسلة» من فرط تكرارها. هناك من يختار اللعب على وتر التعديلات الدستورية، وهذه تفوق فيها الاتحاديون على غيرهم من الحزبيين، وبمجرد ما يعتدل أصحاب هذا الوتر على كراسيهم الوزارية يبتلعون ألسنتهم ويتنكرون لمطلب التعديلات الدستورية. فتعديل المستقبل السياسي عندهم أفضل من التعديل الدستوري.
وهناك من يلعب على وتر الابتزاز الحكومي، وهذه الورقة قامر بها العنصر وخرج «كبوط» من الحكومة.
أستطيع أن أتحدى أيا كان أن الأشعري أو نبيل بنعبد الله بمجرد ما سيعتدلان فوق كراسيهما الجديدة سيقلعان عن حضور جلسات العويل الجماعي التي انخرطا فيها مؤخرا.
ببساطة، لأنهما يمارسان السياسة، والسياسة عندنا لا أخلاق لها. ولذلك فهي أقرب إلى النفاق من أي شيء آخر.
من يريد أن ينتقد ويصلح ويناضل، عليه أن يصنع ذلك عندما تكون سلطة القرار في يده. أما إذا امتنع عن ذلك إلى حين فقدانه لهذه السلطة، فما عليه سوى أن يجرب فضيلة الصمت. خجلا على الأقل.