التدريب
على الإنضباط فنّ حقيقي. إذا عرفتِ كيف تقومين به على النحو الصحيح،
تصِلين إلى أبعد بكثير من مجرّد تدبُّر السلوك. فهو يطوِّر ذكاء الطفل
الإجتماعي والأخلاقي والإنفعالي. إذا لم تعرفي كيف تقومين به على النحو
الصحيح، يمكن أن تُفسدي حياة طفلك، وتترُكيه في مستوىً عالٍ من الخوف أو
الغضب في مواجهة العالَم. لذا إنّه لأمر حيوي إستخدام أساليب التدريب على
الإنضباط التي تنشِّط دماغ طفلك العلوي المفكّر، بدلاً من إطلاق تفاعلات
التهديد والهجوم في دماغه السفلي. كثيراً ما يسلُك الأطفال سلوكاً سيِّئاً
لأنّهم غير بارعين في الحديث عن إنفعالاتهم المؤلمة. إذا صرفتِ وقتاً في
الإستماع إلى طفلك لمساعدته بمشاعره، وإذا عمِلتِ على تحسين صحّة العلاقة
بينك وبينه، وسيتوقّف طفلك، في غالب الأمر، عن الإهتمام بالسلوك السيِّئ.
عبر التاريخ البشري، كان لأساليب تنشئة الأطفال وتدريبهم على الإنضباط دور
أساسي في تعاسة البشر. ذلك أنّ تنشئة الأطفال كانت، لقرون، تقوم على إفتراض
أنّ الحسّ الخُلقي يتحقّق بالعقاب الشديد. الآن بيّنت الأبحاث السيكولوجية
والعصبية أنّ هذا الإفتراض خاطئ تماماً.
- نَحْت دماغ متسلِّط:
خطر تربية متسلّط أو مجرم يتقرّر إلى حدٍّ كبير من خلال نوع الوالديّة التي
يتلقّاها الطفل. الآباء والأُمّهات كثيراً ما لا يُدركون أن تعليم
الإنضباط من خلال الإنتقاد وإصدار الأوامر يمكن فعلاً أن يغيّر أجهزة
الإستجابة للكرب في دماغ الطفل. هذا يمكن أن يجعل الطفل مفرط الحسّاسية
ويتسبّب بفرط إستجابة جهازي الغضب والخوف. هذا الشكل من تعليم الإنضباط
يعلّم الطفل أيضاً حول الخضوع/ السيطرة. من هنا يسهُل على الطفل الإنتقال
إلى الخضوع/ السيطرة في شكل التسلُّط على الآخرين. هذا يغلِب أن يحدث
خصوصاً إذا كان الطفل قد تعرَّض للضرب كشكل من أشكال العقاب. بيّنت الأبحاث
حول سلوك الوالديّة أن 75 بالمئة من الأهالي في بريطانيا يصفعون أولادهم
في عمر السنة على أقفيتهم؛ وأنّ 91 بالمئة من الأطفال الدارجين يتعرّضون
للصفع على أقفيتهم؛ وأنّ 10 بالمئة من الأطفال قد تعرَّضوا للضرب بإستخدام
أداة. لم تسُنّ الحكومة البريطانية حتى الآن قانوناً يمنع ضرب الأهل
لأطفالهم. الطفل الذي يتعرّض للضرب يدخل في رَوعه أنّ ضرب الآخرين أمر
مقبول. قد يضرِب أخاه أو أخته، أو يرفس حيواناً أليفاً، أو يبدأ بضرب رفاقه
في المدرسة. إذ ضربتِ طفلك، تكونين كمَن يعطيه نموذجاً لما يمكن أن يفعله
حين يكون محبطاً.
- تأمَّلي في ما يلي...
في بريطانيا، يُوقَف عن الصفوف مؤقتاً سنوياً أو يُطرد من المدارس نحو
17000 طفل (معظمهم من الذكور) لسلوكهم العنيف ضدّ غيرهم من الطلاب أو
الأساتذة. الطلاب العنيفون المخرِّبون هم ثاني أشيَع الأسباب التي تحمل
الأساتذة على ترك مهنة التعليم. نحو 100000 طفل وفتىً في السنة (10-17 سنة)
يُحكم عليهم بجُنحة أو جريمة أو يُوجَّه إليهم إنذار بعدم التكرار.
لنكُن واضحين، نحن لا نتكلّم عن صياح في وجه الأطفال في حوادث معيّنة.
بعض الأوامر شيء ضروري ولا مَناص منها، مثل أن تصرخي قائلةً "توقَّف!" لمنع
الطفل من الركض في الطريق أو حين يوشك أن يضع إصبعه في مأخذ التيّار
الكهربائي. لكن إذا كان الإنتقاد والأوامر يشكّلان غالب حالات العلاقة بين
الأهل وطفلهم، فإنّ ذلك يؤدي حتماً إلى حياة صعبة لكلا الطرفين. يتعلّم
الطفل حول أشكال العلاقات كلّها القائمة على السلطة والتحكُّم، ويتعلّم
القليل جدّاً حول العلاقات القائمة على الدفء واللطف والتعاون.
عندما تقوم حياة الطفل اليومية على الكرب الذي يتولّد من صراخ الأهل الدائم
وغضبهم المتفجّر، فإنّ التوتر الذي يسبّبه ما يحل به من مشاعر يكون من
الشدّة بحيث لابدّ من تفريغه. من الطرُق الشائعة لمثل ذلك التفريغ ضرب طفل
آخر أو التسلّط عليه، وبالنسبة للأطفال الصغار يفرّغون التوتّر بالصراخ
والزعيق، أو العَض، أو تكسير الأشياء. مثل هؤلاء الأطفال يحبّون ألعاب
الحرب، وكثيراً ما تأسِرهم ألعاب الكومبيوتر العنيفة حيث بإمكانهم أن
يطلقوا النار ويقتلوا كما يحبّون.
تلقي الطفل الإنتقاد والأوامر والتهديد، على نحو متكرّر، لن يساعد دماغه
العلوي في التطور على نحو يمكّن من إعمال المنطق والتخطيط والتفكير. أكثر
من ذلك، هذا الشكل من الوالدية يمكن أيضاً أن يُبرمج أجهزة الإستجابة للكرب
في الدماغ وجهاز الغضب في الدماغ السفلي لتكون مفرطة الإستجابة. هؤلاء
الأطفال يعيشون حياتهم عندئذٍ بشخصية سريع الغضب. الناس لا يستلطفون
الأطفال الذين تتحكّم بأسلوبهم في الحياة آليّة اضرِب – أو – اهرُب الكامنة
في الجزء الزاحفي من الدماغ. هؤلاء الأطفال يتلقّون من الناس، في كثير من
الأحيان، ردَّ فعلٍ سيِّئاً، وهو ما يعزّز نظرتهم السلبية إلى العالم.
الطفل الذي يبالغ أهله في تعليمه الإنضباط يمكن أن يتعلّم أن يُؤلِم غيره
مثلما تعرّض هو للإيلام، وأن يُصدر أوامر كما تلقّى هو أوامر، وأن يعيِّر
غيره كما عيَّره أهله، وأن يسيء بالكلمات كما أسيءَ إليه بالكلمات.
* إذاً كيف نعلّم الطفل الإنضباط هو أمرٌ في غاية الجدّيّة، ليس للطفل وحده فحسب بل للمجتمع ككل.
في ما يتعلّق بتربية الأطفال، المجتمع يحصد ما يزرع، لأنّ الكرب ينحت
الدماغ فيَعرِض أشكالاً من السلوك غير الإجتماعي. "الكرب يمكن أن يبدأ
تموّجاً من التغيُّرات الهرمونية تُبرمج دماغ الطفل ليتكيّف، على نحو دائم،
مع عالمٍ مؤذٍ. خلال الأحداث المتسلسلة هذه، يمرّ العنف وسوء المعاملة من
جيل إلى جيل وكذلك من مجتمع إلى الذي يليه".
العديد من قادة العالم الذين ترَبّوا على تعلُّم الإنضباط بغضب وقسوة،
مارسوا التعامل مع شعوبهم بفظاظة، أو مارسوا أسلوب التسلّط مع شعوب أخرى.
ما دُمنا نواصل تعليم أطفالنا الإنضباط على هذه الصورة، سنستمرّ في خوض
الحروب، في الميدانَين، ميدان البيت وميدان العالم. تُبيّن إحدى الدراسات
التي تناولت أناساً اشتهروا بمساعدة المظلومين، أنّه يجمع بينهم كلّهم صفة
واحدة، وهي أن تنشئتهم كانت على نحو يحترم شخصيّتهم وكرامتهم.
- العُنف في مستقبَل الحياة:
يمكن تعلُّم الكثير حول الوالديّة من الدراسة الرصينة التي قام بها
البروفسور أدرِيان رين، التي تضمّنت صوراً لأدمغة قتلة متهوّرين. تبيِّن
الصور أنّ القتلة حين يتعرّضون للكرب يحدث الكثير من النشاط في دماغهم
السفلي والقليل جدّاً من النشاط في دماغهم العلوي (الفَصَّين الجبهيَّين).
هذا يعني أنّهم يكونون غير قادرين على التصرف المنطقي والتقدير والتفكير في
ما يحدث. هذا يمكن أن يكون من آثار طفولتهم حين لم يتلقّوا من والديهم
مساعدة في التعامل مع مشاعر الغضب والإكتئاب، أو يُلاقوا مواساة وتهدئة.
في هذا العالم الكثير من العنف، ويعود ذلك جزئياً إلى أنّ الكثيرين يجوبون
هذا الكوكب وهم يُعانون من نقص في عمل الفصَّين الجَبهيَّين في دماغهم وضعف
في أجهزة تنظم الكرب. نتيجة لذلك، يكونون جاهزين للإنفجار في أيّ وقت.
- دراسة حالة:
ابنتا مريم الضائعتان تُلاقي مريم وقتاً عصيباً مع طفلتيها، وهي تلجأ،
لتعليمهما الإنضباط، إلى الإنتقاد المتكرّر، وإصدار الأوامر، وإلقاء
المحاضرات. هذه الأساليب قليلة النفع، لكن هي لم تعرِف في طفولتها إلا
القليل من فعالية دفء اللمس، والإحتضان، واللعب المتفاعل.
سمر، وعمرها أربع سنوات، تخاف من صياح أُمّها. أختها سميرة، وعمرها 12 سنة،
يبدو أنها تتكيّف على نحو أفضل. عندما تصرُخ أُمّها في وجهها، ترتدّ إلى
الوراء، لكنّها فتاة غاضبة جدّاً.
الأسلوب الذي تعلِّم به مريم طفلتيها قد يكون له آثار بعيدة المدى على دماغ
كلٍّ منهما. جهاز الخوف في دماغ سمر مفرط الإستجابة تجاه أبسَط أشكال
الكرب، ويُخشى أن يتحوّل إلى خوف ونقص في الثقة الإجتماعية. أمّا سميرة
فإنّ في دماغها السفلي جهازَ غضب مفرط النشاط. قد يشكّل هذا مشكلة حقيقيّة
في مستقبل حياتها في مجالَي العمل والحياة الإجتماعية، إذ يغلِب أنها
ستنفجر غاضبة عند أبسط إحباط.
* بعض الناس ممّن لم يَنالوا في طفولتهم مساعدة لتدبُّر مشاعرهم القوية ينتهون إلى ممارسة العنف على أسرتهم.
معظم الناس يغضبون من حين إلى حين، ولعلّهم يغضبون عندما تصلهم فاتورة
كهرباء مرتفعة أو حين يقطع عليهم الطريق سائق سيارة متهوّر، لكننا نتجاوز
إستجابة الدماغ الصبيانية البدائية ونفكّر ونتصرّف كراشدين. على أنّ بعض
الناس، تظلّ هذه المشاعر طاغية عليهم لا يستطيعون تدبُّرها طوال حياتهم،
وتكون النتيجة أنّه حتى الصعوبات الصغيرة يمكن أن تُطلق فيهم أفظَع حوادث
العنف المنزلي.
- الإنضباط خطوة خطوة:
المشكلة في تأديب الأطفال أن معظمه يتمّ بدون تروٍّ حين يكون الأهل غاضبين
لِما رأوا طفلَهم يفعل. من غير تروٍّ، قد ينتقلون إلى أعلى درجات الزجر.
بطبيعة الحال الأفضل البدء بدرجة منخفضة، والإنتقال إلى درجة أعلى فقط إذا
لم تنفع السابقة:
* حدّ أوّل: "عزيزة من فضلك اتركي فرشاة الدهان على الورقة". لمعظم الأطفال
يكون ذلك كافياً. تحترم عزيزة لحد وتُبقي فرشاة الدهان بعيداً عن السجادة.
لكن ماذا لو لم تفعل؟ عندئذٍ تكون عزيزة تبحث عن حدّ أعلى.
* حدّ ثانٍ. الأُم: "عزيزة، أنا فعلاً أعني ما أقول. عليك أن تترُكي فرشاة
الدهان على الورقة". تضع الأُم أيضاً يديها على كتفَي عزيزة. "عزيزة، لا.
هل تفهمين؟" لكثيرين من الأطفال يكون ذلك كافياً. ولا تقوم عزيزة بذلك مرّة
أخرى. لكن تخيَّلي أنّ عزيزة تبحث عن حد أعلى من هذا وتبدأ بطلاء الجدار.
* حدّ ثالث. الأُم: "عزيزة، اذهبي واجلسي في كرسي التفكير، من فضلك. بعد
ثماني دقائق، سآتي وأسألك كيف ستعوّضين عمّا فعلتِ". عزيزة تذهب لتجلس في
الكرسي. ثمّ تقول إنها ستنظّف الجدار.
* حدّ ثالث بديل. الأُم: "عليك الآن أن تنظّفي الدهان عن الجدار وتقضي معي
وقتاً في تنظيف خزائن المطبخ". على أنّ عزيزة لا تزال الآن تبحث عن حدّ
أعلى إذ تغضَب غضباً شديداً ويتطاير الدهان في كل مكان.
* حد رابع. الأُم تستخدم أسلوب المسك. "يبدو أنك عازمة على أن تُغضبيني.
لذا سأمسِكك إلى أن تهدأي وتكوني جاهزة لتقولي لي كيف ستعوّضين عمّا
فعلتِ". عزيزة ترفُس وتصرخ. لكنّ الأُمّ تظل مُمسكة بها. في نهاية المطاف
توافِق عزيزة على أن تغسِل الجدار وأن تساعد بعد ذلك في المطبخ وأن تعتذر.
مثل هذا السلوك يحسُن أن يعقُبه "وقت إجتماع" مع الأُمّ.
- نِقاط أساسية:
* تصحيح السلوك السيِّئ بالغضب والإنتقاد والأوامر يمكن أن يؤدي إلى أن
يُصبح جهازا الغضب و/ أو الخوف في دماغ الطفل السفلي مُفرِطا الحساسية.
* تجاهُل سلوك الطفل السيِّئ وإعطاؤه الكثير من الإنتباه عندما يُحسن التصرّف، يُعطيان دائماً نتيجة طيّبة.
* وقت الإجتماع كثيراً ما يكون أفضل خياراً من وقت الإنقطاع لأنّه يساعدك في فهم السبب الذي يجعل طفلك يُسيء سلوكه.
* القواعد العائليّة والحدود الواضحة تساعد الأطفال في الشعور بالأمان.
* الخيارات والعواقب تُعمِل دماغ الطفل العاقل بدلاً من تنشيط الخوف والغضب في دماغه السفليّ.
* تعليم الطفل الإنضباط بطُرق تَحفَظ كرامته يمكن إعتباره هديّة عظيمة لأنّه يخدُم مستقبل صحته العقلية وذكائه الإجتماعي والإنفعالي.
المصدر: كتاب علم الأمومة والأبوة