قدم أحد الفاعلين التربويين
شهادة في حق مدرس يشتغل بمدرسة ابتدائية عمومية، قام بزيارته خلال الموسم
الدراسي الماضي فقال: "عندما أتيحت لي فرصة زيارة أحد الفصول الدراسية
بمدرسة ابتدائية عمومية، انتابني إحساس غريب يتعذر علي إيجاد الكلمات أو
العبارات الدقيقة لوصفه بأمانة ودقة. لكني أستطيع أن أنقل الحالة التي
عشتها أو بالأحرى تشبيهها بحالة أحد أبطال أفلام الخيال العلمي التي تتناول
قضية السفر عبر الزمن...
فبمجرد أن أخذت مقعدي داخل
الفصل حتى خيل إلي أنني عدت إلى زمن مضى: منتصف السبعينات من القرن الماضي
مع فارق بسيط هو أني في تلك المرحلة الماضية كنت تلميذا قاصرا مرهوبا، أما
اللحظة فأجلس في الصف بصفتي راشدا مؤطرا. فمن حيث فضاء القسم فقد كان فضاء
سبعينيا بامتياز، إذ يكاد لاشيء داخله يوحي بأنه ينتمي إلى الوقت الراهن،
فالحجرة على صغر حجمها تبدو مكتظة بثلاثين تلميذا و تلميذة، تقابلهم سبورة
خشبية سوداء أو شاحب لونها، تكثر بها ثقوب بيضاء وتعلو أطرافها مسامير
صدئة، غبار يكاد يغطي كل حواشيها و جزء من المصطبة، الخزانة شيدت في
الجدار، لفت انتباهي قفلها رغم بساطته أو رداءته، يبدو أنه يعود إلى زمن
الأشغال اليدوية، زمن المعامل التربوية بالمدارس المغربية. أما الصور
المعلقة وعلى قلة عددها فقد كستها طبقات من الأتربة وإفرازات البعوض. فلم
يعد لها من وظيفة سوى أنها قد تحيل ناظرها الى زمن غابر. الطاولات تم
التحايل عليها بأن عمل على إطلاء واجهتها بألوان مختلفة: أصفر، أخضر، أحمر،
أزرق...
أما التلاميذ، فالقاسم المشترك الذي يبدو أنه يجمع بينهم هو
الانضباط العام و السكينة العامة، على الرغم من أن ما يميز الطفل في هذه
الفترة العمرية هو كثرة حركاته و فضوله وشغبه واعتداده بنفسه و قدراته.
وأيضا براءة مقالبه، إلى درجة يمكن نعتهم بكائنات مروضة لا تنبس و لا تتحرك
إلا بأمر من مدربها. أما المدرس فملامحه الشاحبة و صوته الأجش ونظراته
الثاقبة، وحركات يديه المتعصبة، وخطواته المتعجرفة، كلها أمور ترعب الكبير
قبل الصغير...
من حق الطفل الصغير أن لا يحب فصله الدراسي إذا كان على
هذا الشكل و بهذا النوع من الأثاث و التدبير، لأنه يحس بالألم بصورة دائمة،
ولا يشعر بالفرج أو الفرح و السرور و الحبور إلا عندما يؤذن له بمغادرة
القسم، و لعل هذا ما يفسر سلوك التلميذ الـتالي.
عند دخول الصف: تثاقل
في الخطوات، ارتفاع في دقات القلب، خوف و رهبة، شرود...و عند الخروج
منه..ارتسامات سعيدة، صراخ فرح، خفة في الخطوات، تدافع ونشاط بين الأقران،
مثل عصفور سجين بقفص انطلق حرا كالسهم.
إن بعض المتعلمين اليوم يعيشون
ألما مستمرا، أو رعبا يكاد لا يفارقهم حتى في منامهم، و لا يستطيعون
التعبير عنه لافتقادهم القدرة على فعل ذلك. ولاعتقادهم أن المدرسة بصفة
عامة والقسم بصفة خاصة مكان لا للمرح أو الفرح فيه، بل هو فضاء للألم.
وبالتالي فلما كان من طبيعة الإنسان النفور منه والانجذاب إلى اللذة أو ما
يدخل السعادة و البهجة على القلوب، فإن الطفل لا يفوت أية فرصة قد تتاح له
لمغادرة الفصل. فنتحدث بالتالي عن سوء التوافق المدرسي، عن الفشل الدراسي،
عن الهدر المدرسي..."
إن ضعف اهتمام المدرس بحسن تدبير فضاء البيئة
الصفية، وعدم إيلاء اهتمام مناسب لما هو متوفر داخل الصف من إمكانيات متاحة
سواء بشرية أو مادية. والوقوف عند الاكتفاء بتعداد مظاهر نقائص العمل
التربوي، وبذل الكثير من الوقت و الجهد في البحث عمن يتحمل المسؤولية
الأدبية قبل القانونية في تردي العمل المدرسي بصفة عامة و الأداء المهني
للمدرس بصفة خاصة دون المرور الى أفعال قابلة للتجريب أو التنفيذ كحلول
للمشكلات الصفية المطروحة، والاقتناع بأن الأمر يعود أساسا إلى غياب
الإرادة الحقيقية لدى جميع مكونات المجتمع أشخاصا ذاتيين ومؤسسات لتفعيل
مخططات إصلاح التعليم المعلنة. إنما يبقى موقفا يستدعي طرح أكثر من سؤال:
ما الدافع الذي يجعل المدرس يشعر بحالة من الملل والضغط تجاه مهنته ؟
لماذا يضطر أحيانا إلى أن يكون عنيفا مع تلامذته ؟
لماذا لا يتقبل مرة أو مرات نقدا بناء لممارسته المهنية من طرف مسؤوليه ؟
لماذا نجده يكثر من الشكوى بمناسبة و بدونها ؟
لماذا يميل الى اللامبالاة والاهمال أكثر من ميله للابتكار والإبداع ؟
لماذا يختزل قيمة العمل الإنساني خدمة للمجتمع في ما يدر عليه من مبالغ مالية معدودة ؟
هذه جملة أسئلة لا نزعم أننا
نقدر على الإجابة عنها بصورة دقيقة وافية، لكننا نذهب مع الرأي الذي يقول
بأن الإجابة عنها لها صلة بظاهرة الاحتراق النفسي، التي يعرفها عدد من
علماء النفس بكونها حالة نفسية يمر بها الإنسان كرد فعل للضغط النفسي
الناتج عن العمل الذي يتصف بالشدة و التكرار. وقد أشار باحثون مثل ماسلاش و
جاكبسون وفاروق السيد عثمان ، إلى أن مكونات الاحتراق النفسي يمكن أن
نحصرها وفق العناصر التالية :
الاستنزاف الانفعالي: يتمثل في شدة توتر
الفرد و إجهاده بسبب تعدد المسؤوليات و المهام المنوطة به، ويشير إلى
استنفاذ طاقة الفرد الانفعالية.
ضعف الاهتمام بالبعد الإنساني: يصل
الفرد إلى درجة من الصلابة في التعامل مع الزملاء و الشعور بالتباعد
الانفعالي و السلوكي معهم. و يشير إلى فقدان الآنية في التعامل.
انخفاض الإنجاز الشخصي: يشير إلى الشعور بعدم الكفاءة وعدم الفعالية في التعامل مع المشكلات الخاصة بالعمل.
الاستنزاف
البدني: يشير إلى ضعف الطاقة والشعور الدائم بالتعب والملل و ظهور العديد
من أعراض الإجهاد البدني مثل الصداع المتكرر و قلة النوم و الدوخة والغثيان
و تغير عادات الطعام، وقد يصل الأمر في النهاية إلى الإصابة بأمراض القلب.
أما من حيث أعراض الاحتراق النفسي، فنستطيع أن نجملها في ثلاثة أنواع وهي:
أعراض فيسيولوجية/بدنية.
أعراض نفسية اجتماعية.
أعراض سلوكية.
و قد استعرض اسكواب و ايوانكي قائمة بالعلامات والأعراض التحذيرية التي يمكنها أن تنبئ بظهور الاحتراق النفسي وتتضمن:
عدم البقاء في وضع الجلوس لفترة طويلة.
تغيير مفاجئ في طريقة الحديث.
زيادة مفاجئة في رصيد الأخطاء السلوكية.
زيادة مفاجئة في الوقت اللازم لإكمال المهام.
زيادة الميل الى قطع حديث الآخرين.
وعن
خصائص الأفراد المحترقين نفسيا فقد بين –وسام بريك-"أن نتائج العديد من
الدراسات أشارت إلى أن الأشخاص المحترقين نفسيا يميلون إلى إظهار إشارات
الإجهاد الانفعالي عندما يدركون أنهم عاجزون عن العطاء على عكس ما كانوا
يشعرون به في بداية عهدهم بالمهنة، ويقترن ذلك بتبلد المشاعر تجاه الآخرين
والتي تتضح بما يتطور لديهم من اتجاهات سلبية وساخرة أحيانا متصلبة تجاه
زملائهم. كما يتطور شعورهم بتدني القدرة على الإنجاز عندما يجدون أنفسهم
غير فعالين في مساعدة عملائهم أو في القيام بمسؤوليات أخرى يوكلها إليهم
عملهم " .
و من حيث الأسباب المؤدية الى ظاهرة الاحتراق النفسي لدى عينة
من المشتغلين بمهنة التعليم فيصعب تحديدها بدقة أو حصرها، ذلك لأنها لا
تنتج بشكل مستقل عن الخصائص الفطرية أو الشخصية للفرد ولا تكون نتاجا
لطبيعة و ظروف بيئة العمل، وإنما هي تحدث نتيجة التفاعل الدائم بين خصائص
الفرد الشخصية وخصائص مكونات بيئة العمل، وهذا التفاعل هو الذي يحدد سلوك و
دوافع و اتجاهات المدرس نحو مهنته.
و عموما فالحديث عن ظاهرة الاحتراق النفسي يقتضي استحضار ثلاثة مستويات هي:
المستوى الفردي أو الشخصي.
المستوى الاجتماعي.
المستوى التنظيمي أو الاداري.
وعليه،
فإن تقويم أداء المدرس داخل الصف من طرف الجهات المختصة، لا ينبغي أن
يستند في حقيقته على الوصف الكمي للأخطاء المرتكبة أو السلوكات غير
المقبولة تربويا واجتماعيا قصد تنفيذ الجزاء زجرا و ردعا. وإنما يجب تبني
نظرة ذات بعد شمولي تناقش المواقف السلبية وفق مرجعية علمية موضوعية تبحث
الدواعي والأسباب بغاية الإصلاح و المساعدة وتقديم الحلول الناجعة للمشكلات
المطروحة بدل اعتماد منطق التشفي والانتقام. فالقتل لا يقضي على الذباب بل
ينبغي تجفيف المستنقع كما يقول المثل.
الهوامش:
1فاروق السيد عثمان، القلق وإدارة الضغوط النفسية، دار الفكر العربي، القاهرة.
2 مجلة العلوم التربوية، معهد الدراسات التربوية، جامعة القاهرة، العدد 1 يناير 2003.
3 هشام ابراهيم النرش، دراسة مقارنة في النهك النفسي بين العمال و المعلمين، كلية التربية، جامعة عين شمس مصر.
إعداد الأستاذ: توفيق التهامي، مكون بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين لكلميم السمارة