في حديث نبوي شريف رواه أحمد والنسائي والحاكم وصحّحه، وقال الألباني (حديث حسن) أنّ معاوية بن جاهمة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يريد الغزو، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هل لك أم؟ قال: نعم. قال: فالزمْها فإنّ الجنة تحت رجليها).. ويتطابق ذلك مع معنى ما ورد في حديث آخر اشتهر على الألسنة وهو ضعيف عند علماء الحديث: (الجنة تحت أقدام الأمّهات).
إذا كان الغزو في الجهاد سنام الإسلام، فأين نضع برّ الأمّ إذن؟ هل يمكن أن يكون برّها في يوم من أيام العام، أم هو برّها في سائر الأيام، وفي كل حال ومقام؟ وإذا كان لزوم رعايتها أَوْلى من جهاد الغزو، فما الذي يمكن أن يشغل عنها، مهما حَسِبه الولد أو البنت هامّا، أو واجبا "إسلاميا" عظيما، ناهيك عمّن تشغلهم دنياهم عن أجلّ ما في دنياهم وعن آخرتهم؟
أي منزلة منزلتك هذه أيّتها الأم الكريمة العزيزة؟!
وأي تكريم هذا التكريم أيّتها المرأة العظيمة الجليلة؟!
الأمومة في القمة
أين فيما عرف الناس من أقدم العصور إلى عصرنا الحاضر من مقولات وتصوّرات ومناهج وحركات "نسوية" وغير نسوية، ما أعطى الأمومة منزلتها التي تليق بها، وتستحقّها، كما صنع الإسلام دين الله تعالى الرحيم بخلقه في أمور دنياهم وآخرتهم، والهادي إلى سبيل الرضوان والجنّة والنعيم المقيم؟
يحتفل المحتفلون بعيد الأم في أصقاع الأرض ما شاء لهم الاحتفال، ويلقون ما شاءوا من كلمات، ويحبكون ما يقدرون على إبداعه من أشعار، ويشترون الورود والأزهار، ويهدونها في زيارات عابرة لأمهاتهم، أو يرسلونها عن بعد وقد ضاقت بهم عن رؤية الأمّ أوقاتهم، ومهما فعلوا في يوم واحد من أيام السنة، صادقين أو غير صادقين، فلن يبلغوا عُشر معشار ما يبلغه الصادق في برّه لأمته الطائع المطبّق لكلمات الصادق المصدوق "فالزمْها فإنّ الجنة تحت رجليها".
ولكن حتى هؤلاء المحتفلين باتوا نزرا يسيرا، ليس بسبب الانشغال بالدنيا فقط، بل لضياع معنى الأمومة ومكانتها في حياة البشرية، أو لدى الغالبية منها، بعد أن سوّلت أوهام الحركات النسوية أو من صنعها من الرجال، أن يجرّدوا المرأة من قيمتها الإنسانية الذاتية، ويصوروا لها "مكانة بديلة" تنحصر في بلوغ التألّق في مهنة من المهن، أو منصب من المناصب، أو إدارة من الإدارات، أو زعامة من الزعامات، وليس في شيء من ذلك وأمثاله ما ينبغي أن يُحجب عنها أو يُحظر هكذا على الإطلاق، ولكنّهم سلكوا على طريق وهم الربط بين ذلك وبين القيمة الإنسانية الذاتية والمكانة الاجتماعية الرفيعة للمرأة، سبيلا هدّاما، عبر امتهان الأمومة ودورها، والاستهانة بصناعتها هي للمجتمع كلّه، بصناعتها للمتألقين المتفوّقين من أبنائها وبناتها، وصناعتها هي للقيادات والزعامات، في كل ميدان من ميادين الحياة، فجعلوا من حرص المرأة على الأمومة ما يحطّ من شأنها وقيمتها، وما يُعاب اجتماعيا عليها، وباتت كلمة "ربّة البيت" سبة تُلحق بها، وعارا ينبغي عليها التخلّص منه، ومضوا على ذلك جيلا بعد جيل، حتى أسفرت تلك النظرة الضالّة المضلّة عن تدمير نواة الحياة الزوجية القويمة في المجتمع، وعن ضياع غالبية الجيل الناشئ على كل صعيد، وعن تحوّل المرأة نفسها من موضعها الإنساني الذاتي الكريم، كما أراد خالقها -والجنةُ تحت رجليها- إلى ملهاةٍ للعبث واللهو والمجون، إلا القليل ممّا لا يُقاس عليه، وفوق ذلك لم تصل الغالبية الكبرى من النساء إلى ما سعى من سعى إليه تألّقا أو زعامة، ولا تكريما أو كرامة، وإن وصل قليل من النساء إلى شيء من ذلك وفق المقاييس الدنيوية المعيشية.
إنّ في مقدّمة المتناقضات المسيطرة على عالمنا المعاصر ما صُنع بالمرأة باسم المرأة، وما صنع بالأسرة من خلال امتهان الأمومة والأنوثة، حتى بات ذلك هو الخطر الأكبر على وجود المجتمعات البشرية من حيث الأساس، رغم كلّ تقدّم تقني ومادي.
الاحتفال بعيد الأمّ
إنّ قضية "الأمومة" ليست قضية يوم في العام، ولن نخدمها كما ينبغي عبر احتفال وتكريم ببعض الكلام، إنّما هي قضية العودة بالمرأة إلى مكانتها الكريمة العزيزة، وإلى موضعها الجليل المصان، ولا يتحقق ذلك دون تحويل كل يوم من كل عام من الأعوام إلى يومِ عملٍ قويم متواصل من أجل ربط كرامة المرأة بأنّها امرأة، بقيمتها الذاتية الكامنة في أنها امرأة، وليس بقدر ما تكون "رجلا" ولن تكون، شأنها في ذلك شأن الرجل الذي ترتبط قيمته بأنه رجل وليس بقدر ما يكون "امرأة"، ولن يكون، وليس ابتكار مصطلح "الجندر" -أو النوع الإنساني- مؤخرا سوى دليل على ما كان من إخفاق حتى الآن على الطريق الشائكة المنحرفة باسم المرأة، بعيدا عن الانطلاق من القيمة الإنسانية الذاتية، والكرامة الإنسانية، للرجال والنساء على السواء.
يجب أن نجعل من عيد الأمّ لمن يريد احتفالا به مناسبة من المناسبات، للتذكير بأن تكون سائر الأيام أيام الحرص المطلق على الأمومة، وعلى موضعها في القمّة السامقة الجديرة بها، عبر ما لا يكاد يتحقّق مثله بأي طريق آخر للإنسان أيّ إنسان، مهما سعى للتحلّي بالقيم والأخلاق الحميدة، عطاء وإيثارا، وحبا ورعاية، وتربية وتعليما، وصناعة لجيل المستقبل برجاله ونسائه.
ولا يكفينا في البلدان الإسلامية تخصيصا أن ننظر إلى ما آلت إليه أوضاع مجتمعات العالم من حولنا ويتسرّب إلى مجتمعاتنا من ضياع، لنكشف في مثل هذه المناسبات وفي سائر الأيام عن حقيقة ما أصبح عليه وضع المرأة في ظلّ دعوات زعمت تحريرها فاستعبدتها بألف وسيلة ووسيلة، وألحقت بها وبالرجل وبالأسرة وبالمجتمع أفدح الأضرار وأخطرها على مستقبل البشرية.
لا يكفي.. بل يجب أن نكشف أيضا في مثل هذه المناسبات وفي سائر الأيام، أنّ كثيرا من الرجال الذين يزعمون أنّهم على الإسلام، باتوا في تعاملهم مع المرأة زوجا وأختا وأما وبنتا وشقيقة للرجال في المجتمع الواحد عنوانا للتناقض مع هدي الإسلام، ومع ما يثبّته من إنسانية الإنسان، وكرامة الإنسان، وحقوق الإنسان، وحرية الإنسان، ذكورا وإناثا، في مختلف الأزمنة والأمكنة والأحوال، فهم يخالفون بذلك ما قرّره الرحمن، وما سنُسأل عنه من آيات القرآن، وهم يجعلون من سلوكهم ذاك سدّا في وجوه أنفسهم دون باب من أبواب الجنان، يفتحه البرّ عند أقدام الأمّهات من النساء المؤمنات القانتات الصادقات العاملات، ومن صدق في برّه بأمّه، لا بدّ أن ينعكس ذلك على تعامله مع أمّ أطفاله، وإلا لم يكن من خيار المؤمنين المسلمين، وخيارهم خيارهم لعيالهم، ولا بدّ أن ينعكس ذلك أيضا على تعامله مع بناته وأخواته، ومع كل امرأة، من أقربائه أو سواهن.
يجب أن نخرج من نفق امتهان المرأة تحت عنوان تحريرها تزييفا، وأن نخرج من نفق امتهان المرأة تحت عنوان صيانتها تزييفا، بعد أن أصبحت هذه الحقبة من تاريخ البشرية حافلة بالمتناقضات، قد اختلط فيها حابل الدعوات المنحرفة بنابل ردود الفعل المنحرفة، وفي المقدّمة من ذلك التعامل الشاذّ مع المرأة على هذين الطريقين المتناقضين ظاهريا، الموصليْن إلى التهلكة معا.
حق ثابت.. وواجب مفروض
ليس المطلوب تحرير المرأة، ومحاولة وضعها في قالب "رجل" لتكون حرّة.. فالمرأة حرّة عزيزة كريمة كما أراد لها خالقها، شاء من شاء وأبى من أبى، إنّما المطلوب والواجب هو تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، رجالا ونساء على السواء.. أن يحرّر الفرد نفسه والمجتمع نفسه من استعباد بعضنا لبعض رجالا ونساء على السواء.
وليس المطلوب تكريم الأم بعيد واحتفال.. وكلام بعد كلام، فالأمومة منزلة فوق كل تكريم، وإنّ كل اعتراف بمنزلتها في قمّة ما تمثّله إنسانية الإنسان من قيم، إنّما هو تكريم ذاتي لمن يعترف للمرأة بذلك، وإنّ كل تعزيز لمكانة الأمومة يعود بالعزة والكرامة والخير أضعافا مضاعفا على من يستشعر عزّة الأمومة في أعمق أعماقه ويعيش على ذلك في واقع حياته.
وليس المطلوب قطعا أن ننزلق في ردود الفعل على انحراف من انحرفوا في سبلهم المتشعبة تحت عنوان تحرير المرأة وتكريمها، إلى التشبّث بصور كريهة موروثة، شاذة عن الإسلام وطريقه، تزعم ما لم يفرضه الإسلام في التعامل مع المرأة، وتنشر ما لا يقبل به من التشدّد تنكّرا ليسر الإسلام، ومن التنطّع مخالفةً لوسطية الإسلام، ومن التعصّب وراء كل رأي شذّ بعيدا واجتهاد انحرف عن شروط الاجتهاد في الإسلام، على قدر ما يوافق بعض الأهواء المتمرّدة على فطرة الله التي فطر الناس عليها.
يكفي أن نعود إلى الإسلام كما أنزل، وأن نحيا القرآن كما عاشه الجيل الأول، برجاله ونسائه، وأن نستلهم من السيرة المطهّرة ما كان فيها من الاهتمام بالمرأة العجوز في الطريق، ومن الوفاء للزوج بعد طول العهد بالوفاة، ومن الإصغاء للمجادلة كما أمر ربّ العزة من علياء سمائه، ومن الإنصاف للفتاة وهي تعلّم الجيل الأول من شبيبة الصحابة أنّ الزواج دون رضاها ليس زواجا على سنة الله ورسوله، ناهيك عن المشاركة في الغزوات، وحمل أمانة المهمّات الجسام، في حالة الخطر كما كان في الهجرة، وفي وقت العسرة كما كان في أحد، وفي سائر الأوقات والحالات.
إنّ المرأة التي نتحدّث عنها أحيانا، وكأنّنا نتحدّث عن أَمَةٍ نملك أمرها، أو متاع نتصرّف به، أو كأنّ مجتمعنا مجتمع رجال وليس مجتمع رجال ونساء، إنّما هي أمّك التي حملتك وهنا على وهن، ورعتك صغيرا، وربّتك ناشئا، وفدتك براحتها وبكل ما تملك رجلا، عاما بعد عام بعد عام، من شبابها إلى كهولتها، ويوما بعد يوم بعد يوم، على تقلّب الأحوال والظروف بها.. فهل يكون برّك بها يوما من أيام العام تسمّيه عيدها، أم هل يكون برّك بها أن تكون معاملتك للنساء من أمثالها حجرا وتعسّفا وتعنيفا، وحظرا ومنعا وتقييدا، وأمرا وقهرا وغصبا، ونهرا وتعاليا وتكبّرا، وحرمانا من الحياة الكريمة العزيزة الحرّة على الصراط المستقيم، كما أباحها رب العرش العظيم، مثلما تريد أن تعيش أنت حياة كريمة عزيزة حرة على الصراط المستقيم، كما أباحها رب العرش العظيم.
أوّل المطلوب ممّن يحتفلون بعيد الأمّ ويحاولون صادقين التقدّم فيه ببسمة أو كلمة أو هدية إلى أمّهاتهم، أن يعاهدوا الله ويعاهدوا أمهاتهم، على أن يكون البرّ بالنساء، جميع النساء، متوافقا مع ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلّم في خطبة الوداع أتباعه من الرجال إلى يوم الدين ليكون معيارا دائما وسلوكا يوميا في حياتهم حتى مماتهم: "استوصوا بالنساء خيرا"، وذاك ممّا سنسأل عنه بين يدي الديان، ونرجو ألا تشهد علينا أمّهاتنا مثلما تشهد علينا أيدينا وأرجلنا وسائر جوارحنا، بغير ما نحبّ أن يشهدن يومئذٍ به.. وما ذلك اليوم ببعيد.