يونس عليه السلام
في نينوى ، وتحت ضلال الأصنام ، وبين حنادس ( الليل الشديد الظلمة) الجهل والشرك ،أشعل يونس قبس الإيمان ، وحمل علم التوحيد ، وأهاب بقومه الجاهلين ، أن اربأوا بعقولكم عن عبادة الأصنام ، وكرموا جباهكم أن تسجدوا لهذه الأوثان ، وتبصروا في أنفسكم، وأنعموا النظر فيما حولكم وما يحيط بكم ،يجدوا أن وراء هذا الكون البديع إلها كبيرا ، فردا صمدا جديرا بأن يختص بالعبادة ، ويقصد وحده بالتقديس ، أرسلني هداية لكم ، ورحمة بكم ، لأدلكم عليه ، وأرشدكم إليه إذا كان الجهل قد ران على قلوبكم فلم تتبصره، غشي على بصائركم فلم تتدبر.
فدهش لقوم أن سمعوا قولا لم يألفوه، وحديثا عن إله لم يعرفوه ، وكبر عليهم أن يروا واحدا كان منهم فخرج عليهم ، ورجلا من عامتهم ينصب نفسه رسولا إليهم ، وهاديا هم .
قالوا : ما هذا القول الذي تهدر به ، والبهتان الذي تدعو إليه ؟ هذه آلهة عبدها آباؤنا من قبل ، ونعبدها نحن اليوم ، وما الذي حدث في الكون أو ظهر من الأحداث ، حتى نترك هذا الدين الذي نعتقده ، ونستريح إلى دين أبدعته واخترعته ، وجئت تدعوا إليه ، وتجاهد فيه .
قال : يا قوم ، ارفعوا عن عيونكم غشاوة التقليد ، ومزقوا عن عقولكم نسي الأوهام ، وفكروا شيئا ، وتدبروا قليلا ،أهذه الأوثان التي تتوجهون إليها في صباحكم ومسائكم ، وتعتمدون عليها في قضاء حاجاتكم أو دفع الشر عنكم ، تجلب لكم نفعا ، أو تستطيع أن تدفع عنكم شرا ؟ أهي قادرة على أن تخلق شيئا ، أو تحيي ميتا ، أو تشفي مريضا أو ترد ضالا ؟ أهي تستطيع دفع الشر عنها لو أردته بها ، أو تقيم نفسها لو حطمتها وهشمتها ؟.
ثم ما لكم تعرضون عن هذا الدين الذي أدعوكم إليه ، وهو يأمركم بما فيه صلاح أموركم ، واستقامة أحوالكم ، وتقويم جماعتكم ؟ إنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويبغضكم في الظلم ، ويحبب إليكم العدل والسلام ، وينشر فيما بينكم الأمان والاطمئنان . ثم هو يحثكم على العطف على المسكين والحدب ( العطف ) على الفقير ، وإطعام الجائع ، وفك العاني ، مما فيه صلاح الحال ، واستقامة الأعمال .
فما ظفر منهم إلا بجواب الجاهلين ، وما جادلوه إلا بسفسطة المتعنتين . قالوا : ( ما أنت إلا بشر مثلنا ) الشعراء 154. وواحد منا ولا سبيل إلى نفوسنا أن تسير في هديك ، أو تذعن لدعوتك ، فكفكف عن غربك ، وأقصر من قولك ودون ما ترجو غابات بعيدة ، وحجز قائمة .
قال : لقد دعوتكم بالهداوة واللين ، وجادلتكم بالتي هي أحسن ، فإذا كانت دعوتي تصل إلى قرارة نفوسكم ، كان الخير الذي أرجوه ، والإيمان الذي أبتغيه ، وإلا فإني أنذركم عذابا واقعا ، وبلاء نازلا ، وهلاكا قريبا ، ترون طلائعه ، وتتقدم إليكم دلائله .
قالوا : يا يونس ، ما نحن بمستجيبين لدعوتك ، ولا خائفين من عيدك ، (( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصٰـدقين )) , الاعراف 80 .
ولم يطق يونس صبرا ، بل ضاق بهم ذرعا ، وقطع الرجاء فيهم قبل مطاولتهم ، ومد الحبل لهم ، فرحل عنهم مغاضبا لهم ، يائسا من إيمانهم ، نافضا الكف منهم و أما دعاهم لم يؤمنوا ، وبصرهم لم يتدبروا ، وجادلهم فلم يستمعوا ، وحسب أن الدعوة مقصورة على ما فعل ، وظن أنه يكفي لإبلاغها ما كان .
ولعله لو كان قد أطال مدته ، واستمر في نشر دعوته ، لوجد فيهم من يؤمن ويستجيب ن ولوجد فيهم من يستغفر وينيب ، ولكنه لرحل ليلقى من الله قضاء ويتلقى جزاء .
ولم يكد يبعد يونس ليلا ع نينوى ، حتى وافت أهلها نذر العذاب ، واقتربت منهم طلائع لهلاك ، اغبر الجو حولهم ، ثم تغيرت ألوانهم ، وتشيأت ( تشوهت ) وجوههم . فداخلهم القلق ن وساورهم الخوف ، وعلموا أن دعوة يونس حق ، وإنذاره صدق ن وأن العذاب لا بد بهم واقع ، وأنه سيصيبهم ما كانوا قد سمعوه عن عاد وثمود وقوم نوح .
ولكنه وقع في نفوسهم أن يلجأوا إلى إله يونس فيؤمنوا ، ويتوبوا إليه ويستغفروا ،فخرجوا إلى شعاف (رأس الجبال ) الجبال ، وبطون الصحراء ، شاكي متضرعين ، باكين متوسلين ، وفرقوا بين الأمهات وأطفالها والإبل وفصلانها ، والبق وأولادها ، والغنم وحملانها ، ثم أعول الجميع ، فصاحت الأمهات ، ورغت الإبل ، وخارت البقر ، و ثغت الغنم ، وكانت ساعة بسط الله عليهم بعدها جناح رحمته ، ورفع عنهم سحائب نقمته ، وتقبل منهم التوبة والإنابة ، إذ كانوا مخلصين في توبتهم ، صادقين في إيمانهم ، ورد عنهم العقاب ، وحبس العذاب ، ورجعوا إلى دورهم آمنين مؤمنين ، وودوا لو يعود إليهم يونس ، ليعيش بينهم ، رسولا ونبيا ، معلما وإماما .
ولكنه ـ وقد فارقهم ، وترك ديارهم ـ أخذ يضرب في الأرض ويغد (يسرع ) في السير ، حتى انتهى إلى البحر وهناك وجد جماعة يعبرون ، فسألهم أن يصحبوه معهم ، ويحملوه ي سفينتهم ، فقبله على ارتياح ، وأنزلوه بينهم منزلا كريما ، ومقاما عزيزا ، إذ كان يظهر في وجهه الرم والسماح ن وتتحدث غرته (علامته الظاهرة ) عن تقوى وصلاح ، ولكنهم ما ابتعدوا على الشاطئ ، وجازوا البر ، حتى هاجت الأمواج ، واصطلحت على السفينة الأعاصير ، وتوقع الراكبون سوء المصير ، فزاغت الأبصار ، وانخلعت القوائم ، ولم يجدوا طريقا لنجاتهم إلا أن يتخففوا . فاشتوروا ما يصنعون ، ثم اتفقوا على الاقتراع ، فساهم ( اقترع )الجميع ووقع السهم على يونس . ولكنهم ضنوا به على البحر ، تكريما لشأنه وعرفانا بمكانه ، فعادوا للمساهمة فعاد السهم عليه .
فعلم يونس أن من وراء ذلك سرا ، وأن لله في ذلك تدبيرا وأدرك خطيئته وما كان من تركه لقومه قبل أن يؤذن له في الهجرة ، أو يستخير الله في الرحيل . فألقى بنفسه في اليم ، وأسلم نفسه للأمواج يتقلب بين طياتها ، ويتخبط في ظلماتها .
وأوحى الله إلى الحوت أن يبتلعه ، وأن يطويه في بطنه ، ويهوي \إلى الأعماق في ظلمات متضاعفة ، وحنادس متعاقبة . فضاق صدره ، و اعتلج همه ، وفزع إلى الله غياث الملهوف ، وملجأ المكروب ، وواسع الرحمة ، وقابل التوبة وغافر الذنب، ( فنادى في الظلمٰـت أن لا إله إلا أنت سبحٰـنك إني كنت من الظـٰـلمين)
الانبياء 87.
فاستجاب الله الدعاء ، وأوحى إلى الحوت في الماء، أن ألق بضيفك في العراء فقد أوفى على الغاية ، ونال ما قدر له من جزاء . فألقاه الحوت على الشاطئ سقيما هزيلا ، مدنفا عليلا ، وتلقته رحمة الله فأنبتت عليه شجرة من يقطين ( نبات لا ساق له ). طعم بثمرها ، واستظل بورقها ، ودب إليه العافية ، وظهرت فيه تباشير الحياة .
ولما استوى على سوقه ، ورجع إلى سابق عهده ، أوحى الله إليه : إن ارجع على بلدك ، وموطن آصرتك وعشيرتك ، فإنهم آمنوا فنفعهم ألإيمان ونبذوا الأصنام والأوان ، وإنهم الآن يتحسسون مكانك ، ويرقبون مجيئك .
وعاد يونس إلى قريته ، وما راعه إلا أنه خلفهم وليس فيهم إلا من هو عاكف على الأصنام ، وعاد إليهم وما فيهم إلا ألسنة تلهج بذكر الرحمن