أكد الأستاذ عز الدين عمر موسى، أستاذ بكلية الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية بجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بالسعودية، أمس الخميس بالرباط أن "زيادة الإنتاج عبادة، وتغيير نمط الاستهلاك زهد، ومحاربة معوقات الإنتاج حسبة، وردم الهوة بين الأغنياء والفقراء تطوع، وهذا لا يقوى عليه إلا منهج مقتبس من النور الإلهي".
ودعا عمر عيسى، من خلال مشاركته في الدرس الثاني من الدروس الحسنية بالمغرب في موضوع "إستراتيجية الأمن الغذائي من منظور إسلامي"، إلى إنشاء مركز للدراسات والأبحاث يعنى بالأمن الغذائي على النهج الإسلامي، ويستشرف الحلول المستقبلية.
القصص والرؤى
وفي مستهل حديثه عن عناصر الإستراتيجية الإسلامية في الأمن الغذائي من خلال سورة يوسف توقف المحاضر حول فائدة القصص القرآني وعلاقتها بالرؤى، وقال: "إن القصص القرآني ليس حكايات تروى أو أخبارا تسرد، وإنما حقائق ثابتة وجزء من منهج الإسلام الرصين في بيان مواعظ القرآن وحلاله وحرامه، مستشهدا بآيات قرآنية على أهميتها (أحسن القصص، أحسن الحديث، القصص الحق، نقص على بني إسرائيل..).
وسجل المحاضر أن أغلب القصص الواردة في القرآن موجهة لأولي الألباب لأخذ العبرة منها، إذ جاءت القصص في سورة يوسف لتؤكد أن الابتلاء يكون قبل التمكين، مشيرا إلى أن تفسير القصص نحا ثلاثة أصناف: صنف يضر ولا ينفع، وصنف يؤثر في الأحكام وما هو يقيني وإسقاطه واجب، والثالث لا يتعارض مع ما جاء مجملا، وهو الذي تكفل بتفسيره المفسرين المقتصدين مثل ابن كثير والقرطبي.
وفيما يتعلق بالرؤى التي أثارت جدلا إعلاميا بالمغرب بعد رؤيا "القومة" لجماعة العدل والإحسان سنة 2006، أوضح عمر عيسى أن الرؤى حق والفيصل هو صحة تأويلها وتحققها، أما الأحلام التنبؤية فيستوي فيها المسلم وغير المسلم.
وقال المحاضر إن سورة يوسف تضمنت ثلاث رؤى: تناولت الأولى سجود أبويه وإخوته له، والثانية والثالثة تفرد يوسف بتفسيرهما بما علمه الله من أمور الغيب والتأويل، حيث فسر رؤيا صاحبيه في السجن، أما الثالثة فقد اعتبرها المحاضر عابرة للزمان والمكان وصالحة لكل إنسان، وهي موضوع التخطيط الإستراتيجي للأمن الغذائي، وهي تتعلق برؤيا الملك وبقراته وسنبلاته السبع.
عناصر التخطيط الإستراتيجي للغذاء
وانطلاقا من قول الله تعالى في سورة يوسف: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ" [يوسف : 46] إلى قوله تعالى "وَفِيهِ يَعْصِرُونَ" [يوسف : 49]، استنتج أستاذ الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية معالم المخطط الإستراتيجي الإسلامي للأمن الغذائي.
وقال إن الآيات "اليوسفية" قدمت عناصر المخطط الإستراتيجي للأمن الغذائي بتوفير المخزون الإستراتيجي من الغذاء من خلال الإنتاج وترشيد الاستهلاك، حيث بدأ يوسف باعتباره مسئولا عن هذا الترشيد بالأكل بلا إسراف وتوزيع الغذاء بحصص معلومة.
وأشار عمر عيسى إلى أسلوب حفظ الزرع من الفساد في سنبله دون الحاجة إلى مواد كيميائية، وتقنين الاستهلاك وحصاد جزء وترك البذور للموسم المقبل، مع الاستعداد للتعاون مع غير المؤمن على البر في ظروف الشدة.
وفي مجال تقنين الاستهلاك وربطا بالإشارة للواقع المغربي، أشار المحاضر إلى ما قام به الراحل الحسن الثاني في سنوات الجفاف عندما ضحى نيابة عن شعبه حفاظا على الثروة الحيوانية من الانقراض.
وأضاف أن التخطيط الإستراتيجي "اليوسفي" للأمن الغذائي جزء من المنظومة الإسلامية، قوامه تلازمية الطعام والأمن والإيمان، الذي يشكل مرتكز هذه التلازمات، مذكرا بتلازم الطعام والأمن في سورة (قريش)، والإيمان بالعمران والكفر بالجفاف والتصحر.
وقال إن الإيمان عمران لا ينقطع وخيره متصل، أما الكفر فهو جفاف وتصحر وهجرة من الديار وتفرق في الآفاق، وهو ما يؤكد تجانسا لما يظهر متنافرا مثل الدنيوي والأخروي والمادي والمعنوي، موضحا أن الدين هو المحرك للإنتاج والعيش الكريم هو الدافع ونشدان خيري الدنيا والآخرة هو المبتغى.
وحسب المحاضر، فالمخطط الإستراتيجي يقوم على أربعة أسس، وذكر منها: توفير الإنتاج بعمل وسعي لا يفتر وتوسيع الأراضي الزراعية، مستشهدا بالحديث النبوي الذي يحض على غرس الفسيلة وإحياء الأرض الموات، والثاني ترشيد الاستهلاك بوسطية، حيث لا يأخذ الفرد إلا ما يحتاج له، والثالث الحرص على الماء، لأنه أساس الحياة، إذ جعل الإسلام الاقتصاد فيه عند الوضوء سنة، والرابع الحفاظ على التوازن البيئي.
معالجة معوقات الأمن الغذائي
ونبه الأستاذ إلى عدد من معوقات الإنتاج ومفسدات الاستهلاك، التي تهدد الأمن الغذائي، ومنها: التبذير والإسراف والترف، والاحتكار من أجل رفع الأسعار، مشددا على ضرورة حضور الوازع النفسي للحفاظ عليها أو تدخل السلطان من أجل ذلك.
وتابع شارحا إن المترفين في كل جيل "هم أعداء التغيير وأشد المكذبين بالرسل، حيث تهلك الأمم بسبب فسادهم"، ولذا فالإكثار من الإنتاج ومعالجة معوقاته هو ما يميز المنظور الإسلامي للأمن الغذائي بشكل خاص.
فالمعوقات المذكورة تسير في غير الإستراتيجية الغذائية الإسلامية، بل هي توسع الفجوة الغذائية وتقضي على كل جهد، وبالتالي فمعالجة خللها يكون بالتكافل الاجتماعي بالتسابق إلى فعل الخيرات، سواء بالزكاة، التي هي حق للسائل والمحروم، أو الوقف والصدقات، التي تتسع مجالاتها، ودرء الكوارث الطبيعية والجوائح البشرية والتعاون على البر واستثمار الطاقات الخلاقة لدى الإنسان.
أرقام تستدعي الإستراتيجية
وفي العنصر الأخير المتعلق بالضرورة الحاضرة لتناول موضوع الأمن الغذائي، عرض المحاضر مجموعة من الإحصائيات والتقارير الدولية التي تكشف عن الوضع الحالي للأمن الغذائي في الوطن العربي والذي يتميز على الخصوص بالفجوة المائية (النقص في الموارد: حالة العراق) وارتفاع واردات المواد الاستهلاكية الأساسية وعلى رأسها القمح (كل الدول العربية باستثناء سوريا والسعودية).
وأكد عمر عيسى أن زيادة الإنتاج عبادة وتغيير نمط الاستهلاك زهد ومحاربة المعوقات يدخل في باب الحسبة وردم الهوة بين الغني والفقراء تطوع، مؤكدا أنه لا مخرج للمسلمين -فيما يخص الأمن الغذائي - إلا بإطلاق الطاقات الروحية، فدراساتنا تبقى ناقصة، والجهود مبعثرة، ولذا لا بد من إنشاء مركز يعنى بقضايا الأمن الغذائي وإيجاد حلول مستقبلية يكون مقره بالرباط، ليحقق المسلمين والإنسانية ما ينقصها ويكون المسلمون بذلك في الحضارة مشاركين ولتهديداتها معالجين باستئصال آفة الجوع وتحقيق التوازن والأمن الغذائي.
يذكر أن الدرس، الذي ألقاه عمر عيسى، جاء مباشرة بعد الدرس الافتتاحي لوزير الأوقاف المغربي أحمد التوفيق حول "نصيحة الحكام جزء من البيعة ودور العلماء"، وهو ما يعني التوجه إلى مقاربة القضايا الحياتية أكثر من التقوقع في قضايا العبادات.
منقول للفائدة