أن السياسة هي تدبير شأن الدولة، وانطلاقا من هذا أشير إلى بعض الملاحظات، التي تبرز أن السياسة دائمة دوام البشرية:
1 ـ إن الشركات والمؤسسات المتعددة الجنسيات تشكل مظهرا من مظاهر العولمة، ولكنها تخضع لسياسة معينة وديمقراطية متوافق عليها، بغض النظر عن تقويمها. إذن فهي إفراز لاجتهاد مجموعة من الدول في إطار عولمة هادفة وسياسة معينة.
2 ـ إن السياسة كما أكد على ذلك الجابري "تدبير شؤون المدينة" بالمفهوم اليوناني، وعوضت الدولة مفهوم المدينة، وبالتالي أصبحت السياسة تدبير شؤون الدولة. وبروز العولمة ليس إقصاء للسياسة بل عملية نقل السياسة من مفهوم وطني إلى منطوق عولمي مدروس، حيث تصبح فيه الدول المتخلفة دركيا يسهل عملية المرور لهذا النموذج السياسي العولمي.
3 ـ إن هذا المفهوم العولمي للسياسة خرج من إطاره العادل للمفهوم الديمقراطي لحقوق الإنسان، وبالتالي أصبحت العولمة تغتال قيم الوطن والأمة، والاقتصاد والإعلام والمال... إذن لسنا أمام موت السياسة وإنما نحن أمام تحريف دولي لمفهوم السياسة، والسر في ذلك هو تعميم العولمة بمفهوم يخدم فئات معينة، ومن ثمة دعا الجابري في أكثر من مناسبة إلى بناء مفهوم العالمية بدل العولمة.
4 ـ إن مفهوم العولمة أفرز مؤسسات قانونية ومالية واجتماعية واقتصادية ورياضية وغيرها دوليا.. وأصبحت تساهم في توجيه الرأي العام الدولي وتتدخل في تدبير شؤون الدولة بشكل أو بآخر.
ونظرا لما عرفته السياسة الدولية من اختلالات، فإن هذه المؤسسات في الغالب تكيل بمكيالين، نظرا للمناخ السياسي المؤطر لهاته المؤسسات. نمثل لهذا بمثال واحد هو عدم جرأة المؤسسات الدولية على محاكمة إسرائيل، نظرا لارتكابها جرائم حرب ضد الإنسانية، بل إن منظمة الحقوق الدولية أمرت بمنع تمكين إسرائيل والفلسطينيين من الأسلحة.
5 ـ إن أوروبا مكونة من مجموعة من الدول، ونظرا لتداخل المصالح فقد جرى التوافق على تأسيس الاتحاد الأوروبي، والبرلمان الأوروبي واللجنة الأوروبية وغيرها، التي أصبحت تدير سياسة هذه الدول وتسن قوانين تهم الجميع، وبذلك استقطبت حاليا 27 دولة، وهذا مؤشر على نقل مضامين السياسة من دولة إلى قارة تواجه الآخر وعلى رأسها المجموعة الأسيوية والولايات المتحدة الأميركية وغيرها.
6 ـ إن تأثير السياسة بالمفهوم الذي ساد في أوروبا وغيرها، والذي أفرز مفهوم العولمة، جعل دول العالم الثالث في تبعية مقيتة لهاته التصورات غير العادلة عالميا... وبالتالي أصبحت حركيتها السياسية والتشريعية تدخل، حسب تعبير الجابري، في إطار "التكييف" أو بلغة القانونيين، الملاءمة. وهذه الذيلية أفرزت لنا صنفين من الناس بلغة المفكر الجابري.
1 ـ مستهلك للواردات، وبالتالي فهو خارج ما يدور عالميا.
2 ـ متهور يعاني الفقر ويعيش ألما وخصاصا في عيشه اليومي.
وينتج عن هذا احتجاجات وانتفاضات، مما يجعل الدول الكبرى تدعم منطق رد الأمن والاستقرار لهاته البلدان التي تشكل مرتعا خصبا لرقيها وتنميتها.
7 ـ أمام هاته المعطيات هل يمكن القول إننا دخلنا مرحلة "اصطفاء الأنواع، أو الاصطفاء الطبيعي، أو البقاء للأصلح، أو نظرية النشوء والارتقاء؟.
إن الأمر يجب أن يخرج من بعده البيولوجي إلى المنطق الإيديولوجي كما أكد على ذلك الجابري، لأن العولمة تفرض طريقا واحدا وفكرا وحيدا، الليبرالية ولا شيء غير الليبرالية التي تعني اليوم الخوصصة والعولمة.
إذن العولمة لم تلغ السياسة بل أفرزت سياسة أحادية تخدم مصالح الأقوياء، لذلك وجدت من يناهضها. واليوم نعيش أزمة عالمية نتيجة هذا الوضع المعاق، الذي أصل له كل من "فوكويان" و"صمويل هنتغتون" وغيرها.
وفي هذا الإطار يجب أن ننتقل من مرحلة الملاءمة والتكييف إلى مرحلة الانتقاء الإيجابي، والبناء العالمي بدل العولمي، الذي يوفر الديمقراطية والتنمية للجميع. وهذا مطلب يتطلب عملا مستمرا ومجهودا مضاعفا، ذاتيا وموضوعيا، بناء على قولة شكسبير "كن أو لا تكون"، كن بالمنافسة وإلا سيكون مصيرك الضعف الدائم بدل أن نقول كلمة استعملها الدكتور الجابري في آخر مقالته "الانقراض".