لقد جعل جلالة الملك محمد السادس، منذ اعتلائه العرش, النهوض حقوق الإنسان في صلب المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، الذي يقوده جلالته، ومن ذلك إنصاف المرأة، وحماية حقوق الطفل، وصيانة كرامة الرجل، في تشبث بمقاصد الإسلام السمحة، في العدل والمساواة والتضامن، والاجتهاد والانفتاح على روح العصر ومتطلبات التطور والتقدم. وإذا كان المغفور له الملك محمد الخامس، قد سهر غداة استرجاع المغرب لسيادته، على وضع مدونة للأحوال الشخصية، شكلت في إبانها لبنة أولية في بناء صرح دولة القانون، وتوحيد الأحكام في هذا المجال، فإن عمل المغفور له الملك الحسن الثاني، قد تميز بالتكريس الدستوري للمساواة أمام القانون، موليا قضايا الأسرة، عناية فائقة، تجلت بوضوح في كافة ميادين الحياة السياسية والمؤسسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكان من نتائجها أن تبوأت المرأة المغربية مكانة أرقى، أتاحت لها المشاركة الفاعلة في شتى مناحي الحياة العامة.
وفي نفس السياق، وسيرا على النهج القويم لجده ووالده ، فإن جلالة الملك محمد السادس، تجسيدا لالتزامه المولوي بديمقراطية القرب والمشاركة، وتجاوبا مع التطلعات المشروعة للشعب المغربي، وتأكيدا للإرادة المشتركة التي تجمع كافة مكونات الأمة بقائدها، على درب الإصلاح الشامل والتقدم الحثيث، وتقوية الإشعاع الحضاري للمملكة، قد أبى, إلا أن يجعل من الأسرة المغربية، القائمة على المسؤولية المشتركة، والمودة والمساواة والعدل، والمعاشرة بالمعروف، والتنشئة السليمة للأطفال لبنة جوهرية في دمقرطة المجتمع باعتبار الأسرة نواته الأساسية.
وقد سلك جلالة الملك محمد السادس، منذ تقلده الأمانة العظمى لإمارة المؤمنين، مسلك الحكمة وبعد النظر، في تحقيق هذا الهدف الأسمى، فكلف لجنة ملكية استشارية من أفاضل العلماء والخبراء، من الرجال والنساء، متعددة المشارب ومتنوعة التخصصات، بإجراء مراجعة جوهرية لمدونة الأحوال الشخصية، كما حرص جلالته، على تزويد هذه اللجنة باستمرار، بإرشاداته, وتوجيهاته بغية إعداد مشروع مدونة جديدة للأسرة، مشددا على الالتزام بأحكام الشرع، ومقاصد الإسلام السمحة، وداعيا إلى إعمال الاجتهاد في استنباط الأحكام، مع الاستهداء بما تقتضيه روح العصر والتطور، والتزام المملكة بحقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا.
وقد كان من نتائج هذا الحرص الملكي السامي، الإنجاز التاريخي لهذه المدونة الرائدة، في مقتضياتها وصياغتها بأسلوب قانوني فقهي حديث، متطابقة مع أحكام الإسلام السمحة ومقاصده المثلى، واضعة حلولا متوازنة ومنصفة وعملية، تنم عن الاجتهاد المستنير المتفتح، وتنص على تكريس حقوق الإنسان والمواطنة للمغاربة نساء ورجالا على حد سواء، في احترام للمرجعيات الدينية السماوية. مؤكدا ذلك في احدى خطبه قائلا : "لقد توخينا، في توجيهاتنا السامية لهذه اللجنة، وفي إبداء نظرنا في مشروع مدونة الأسرة، اعتماد الإصلاحات الجوهرية التالية:
- أولا: تبني صياغة حديثة بدل المفاهيم التي تمس بكرامة وإنسانية المرأة وجعل مسؤولية الأسرة تحت رعاية الزوجين وذلك باعتبار "النساء شقائق للرجال في الأحكام"، مصداقا لقول جدي المصطفى عليه السلام، وكما يروى: "لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا لئيم "
- ثانيا: جعل الولاية حقا للمرأة الرشيدة، تمارسه حسب اختيارها ومصلحتها، اعتمادا على أحد تفاسير الآية الكريمة، القاضية بعدم إجبار المرأة على الزواج بغير من ارتضته بالمعروف: "ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف" وللمرأة بمحض إرادتها أن تفوض ذلك لأبيها أو لأحد أقاربها.
- ثالثا: مساواة المرأة بالرجل بالنسبة لسن الزواج، بتوحيده في ثمان عشرة سنة، عملا ببعض أحكام المذهب المالكي، مع تخويل القاضي إمكانية تخفيضه في الحالات المبررة، وكذلك مساواة البنت والولد المحضونين في بلوغ سن الخامسة عشرة لاختيار الحاضن.
- رابعا: فيما يخص التعدد، فقد راعينا في شأنه الالتزام بمقاصد الإسلام السمحة في الحرص على العدل، الذي جعل الحق سبحانه يقيد إمكان التعدد بتوفيره، في قوله تعالى "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة"، وحيث إنه تعالى نفى هذا العدل بقوله: "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، فقد جعله شبه ممتنع شرعا، كما تشبعنا بحكمة الإسلام المتميزة، بالترخيص بزواج الرجل بامرأة ثانية، بصفة شرعية لضرورات قاهرة وضوابط صارمة، وبإذن من القاضي، بدل اللجوء للتعدد الفعلي غير الشرعي، في حالة منع التعدد بصفة قطعية
ومن هذا المنطلق فإن التعدد لا يجوز إلا وفق الحالات والشروط الشرعية التالية:
* لا يأذن القاضي بالتعدد إلا إذا تأكد من إمكانية الزوج في توفير العدل على قدم المساواة مع الزوجة الأولى وأبنائها في جميع جوانب الحياة، وإذا ثبت لديه المبرر الموضوعي الاستثنائي للتعدد
* للمرأة أن تشترط في العقد على زوجها عدم التزوج عليها باعتبار ذلك حقا لها، عملا بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "مقاطع الحقوق عند الشروط". وإذا لم يكن هنالك شرط، وجب استدعاء المرأة الأولى لأخذ موافقتها، وإخبار ورضى الزوجة الثانية بأن الزوج متزوج بغيرها. وهذا مع إعطاء الحق للمرأة المتزوج عليها، في طلب التطليق للضرر
- خامسا: تجسيد إرادتنا الملكية، في العناية بأحوال رعايانا الأعزاء، المقيمين بالخارج، لرفع أشكال المعاناة عنهم، عند إبرام عقد زواجهم. وذلك بتبسيط مسطرته، من خلال الاكتفاء بتسجيل العقد، بحضور شاهدين مسلمين، بشكل مقبول لدى موطن الإقامة، وتوثيق الزواج بالمصالح القنصلية أو القضائية المغربية، عملا بحديث أشرف المرسلين "يسروا ولا تعسروا".
- سادسا: جعل الطلاق حلا لميثاق الزوجية يمارس من قبل الزوج والزوجة، كل حسب شروطه الشرعية، وبمراقبة القضاء، وذلك بتقييد الممارسة التعسفية للرجل في الطلاق، بضوابط محددة تطبيقا لقوله عليه السلام: "إن أبغض الحلال عند الله الطلاق"، وبتعزيز آليات التوفيق والوساطة، بتدخل الأسرة والقاضي. وإذا كان الطلاق، بيد الزوج، فإنه يكون بيد الزوجة بالتمليك. وفي جميع الحالات، يراعى حق المرأة المطلقة في الحصول على كافة حقوقها قبل الإذن بالطلاق. وقد تم إقرار مسطرة جديدة للطلاق، تستوجب الإذن المسبق من طرف المحكمة، وعدم تسجيله إلا بعد دفع المبالغ المستحقة للزوجة والأطفال على الزوج. والتنصيص على أنه لا يقبل الطلاق الشفوي في الحالات غير العادية.
- كما أمرناه أيضا، بأن يرفع إلى جلالتنا اقتراحات بشأن تكوين لجنة من ذوي الاختصاص، لإعداد دليل عملي، يتضمن مختلف الأحكام والنصوص، والإجراءات المتعلقة بقضاء الأسرة، ليكون مرجعا موحدا لهذا القضاء، وبمثابة مسطرة لمدونة الأسرة، مع العمل على تقليص الآجال، المتعلقة بالبت في تنفيذ قضاياها الواردة في قانون المسطرة المدنية، الجاري به العمل.